من أنشطة مركز الدراسات النوبية والتوثيق.. الخرطوم
ملف اللغة النوبية
لعله من الضروري هنا، تقديم تعريف شامل عن مركز الدراسات النوبية والتوثيق، أهدافه، وسائله، ومجالات عمله، سوف تأتي بتفاصيله، في سياق طرحنا الراهن..
المجال هنا خصصناه لملف اللغة النوبية:
وعرضا، نستعرض مقدمة مقترحة في صدر قاموس نوبي يقوم بإعداده الباحثان مكي علي إدريس، وخليل عيسى خليل
الله الرحمن الرحيم
تعبّر اللغة عن قيم وتقاليد وأعراف المجموعة الناطقة بها، وعن تفاصيل الحياة المادية والمعنوية لتلك المجموعة، وأهمّها المعتقدات، طقوسها العبادية، تجلياتها الروحية، ومخلفاتها المادية، لذا نجد أنّ أثر المعتقدات بليغ ومتجذّر في لغاتها المعبّرة عنها، لقيامها بمهمّة تقويم حياة الأفراد والجماعات، بتشريعاتها وقوانينها، التي تعتبر كمرجعيات راسخة لكل معتقد، (سماوي أو وضعي)، تبنى عليها قيم ومكارم أخلاقها، لضبط السلوك العام لأفرادها، وهذا يفسّر احتشاد اللغات المعنية بالمفردات والتعابير الشارحة لأدبيات معتقداتها السائدة، وانتشار قصص وأساطيرالخلق المتنوّعة بتنوّع الأجناس البيئات.
على أرضية محتشدة بالديانات الوضعية المرتبطة بالبيئة المحلّية، سادت عبادة الإله آمون رع، إله الشمس، في حضارات حوض النيل الأوسط، ومعظم الحضارات القديمة، وألقت بظلالها على ثقافاتها ومعتقداتها، وتطوّرت على أرضيتها الديانات السماوية، اليهودية، المسيحية، والإسلامية، وكان من البديهي أن تؤثر هذه الديانات والمعتقدات في مكوّنات وأدبيات اللغات النيلية الصحراوية، وتمثل اللغات النوبية في أواسط وشمال السودان، إحدى روافدها المرصودة.
الحضارة النوبية " السودان القديم" حضارة سوداء، ويزعم المؤرخون أن اللغة النوبية حلت محل اللغة المروية، تدريجياً، بعد انهيار مملكة مروي على يد الأكسوميين، بقيادة عيزانا الحبشي، المتديّن بالمسيحية، وقد سادت اللغة النوبية في أواسط وشمال السودان، يقول بروس تريجر (... أما اللغة المرَّوية التى شغلت وادي النيل الأوسط فقد فعلت ذلك على ما يبدو لفترة معتبرة من الزمن. أما في أراضي السهول إلى الغرب، فقد كانت هناك كتلة كبيرة من المتحدثين باللغة النوبية في وقت مبكر من العصر المسيحي، شق بعض المتحدثين بأحد فروع اللغة النوبية طريقهم شمالاً إلى أرض النوبة الحديثة، بينما شق البعض الآخر طريقه شرقاً إلى منطقة الخرطوم حالّة النوبية محل المرَّوية. وبعد غزوات العرب اختفت النوبية من المنطقة الأخيرة وانتشرت العربية داخل أراضي السهول)، بروس تريجر، ترجمة فؤاد عكود
إن أحداً من المؤرخين، لم يحاول تقسيم النوبة إلى نيليين وصحراويين، كما عند بروس تايقر، ولم يقولوا شيئاً عن اللغة النوبية التي سادت في ضفاف وصحارى ممالك كوش في كرمة، ونبتا، ثم مروي، سادت اللغة النوبية في غرب السودان، جبال النوبة، التاكا، والحوض النيلي من شمال أسوان إلى جنوب السودان..ففيها ازدهرت حضارات السودان القديم، ممثلة في الممالك النوبية، عبر التاريخ.
اللغة النوبية المتداولة حالياً، في شمال السودان، تنقسم إلى لهجتين، الأولى هي اللهجة الدنقلاوية – الكنزية (د/ك)، وهي السائدة في محافظة دنقلا، ومنطقة الكنوز بغربي مدينة أسوان بمصر، والثانية لهجة المحس – فاديجا (م/ف)، والتي تمتد من مدينة كرمة وتشمل مناطق المحس، السّكوت، وادي حلفا وشرق مدينة أسوان بمصر، ومناطق تهجير النوبيين، بأرض البطانة (خشم القربة)، وقد تعدّدت الآراء حول أسباب بروز هذه اللهجات في الإقليم النوبي، على أرضية كثيرة الاهتزاز، تعاني من شُّح التدوين والرصّد، نتج عن غياب التداول الكتابي والتواصل الابداعي، لمصلحة اللغة العربية المدعومة بالعقيدة الإسلامية والسلطة السياسية.
لعلّ احتشاد القارة الإفريقية بكَمّ وافر، من التباين الثقافي والإثني، وتعدّد المناخات، هو الذي أدّى إلى جعل الهجرات في إفريقيا، "صناعة مزدهرة"، لذا ظلّت لغاتها في حالات تشكّل دائمة، لا تستقر على نقاء أو قحّة، فاللغة ( أية لُغة)، لا تنشأ من فراغ، ولا تذهب بالضرورة إلى فراغ، لأنها كقيمة ثقافية بعيدة المدى تظلّ منذ نشأتها ( أو تفرُّعها وانسلاخها من لغة أخرى)، تمور بالحركة والتشكّل إلى مستوى العنفوان، ثم التراجع والسقوط أو الذوبان في جسم اللغة البديلة.
الإقليم النوبي بشمال السودان، يعتبر منطقة تماس بين الحضن الإفريقي الزنجي والحضن الشمالي الأبيض، وجسراً هاماً للتواصل الحضاري بين إفريقيا والشرق الآسيوي من جهة، وحوض البحر المتوسط من جهة أخرى، ( وليام.ي.أدمز: النوبة رواق إفريقيا، الطبعة الثانية 2005م)، وعليه يمكن القول، بأن اللغات النوبية النيلية، إنّما نشأت في ظل هذا التشكّل المستمر، معبّرة عن المكوّنات الأصلية للبيئة الفيضية، وكل عناصر ثقافة التّماس، فقد تضافرت عوامل الموقع الجغرافي والتّماس الثقافي، الحضاري، لإكساب اللغة النوبية بشمال السودان، العديد من فرص التلاقح والتمازج بلغات الشرق الآسيوي ولغات الحضن الشمالي (حوض البحر المتوسط)، على أساس انتمائها الإفريقي، وتأثّرت أدبياتها بألوان التشريعات والقوانين والعبادات المختلفة، عبر العصور، من خلال التنافس المحتدم بين الأديان الوضعية والسماوية، والصراع حول السلطة.
المشهد الرّاهن للغة النوبية، بلهجتيها (م/ف) و(د/ك)، في شمال السودان، ما هو إلاّ حلقة من تلك الحلقات المتأرجحة بين السطوع والخفوت، ثمّ الخضوع لشكيمة اللغة البديلة، أمّا هذه المرّة، فقد نجحت اللغة العربية، مستعينةً بالعامل الديني- السياسي، في فرض شكيمتها وتثبيت الثقافة العربية الإسلامية، في صراع محتدم بينها وبين اللغات والثقافات الإفريقية الأُخرى، ظلّت ترمي بظلالها على الحياة السودانية حتّى تأريخه، فأصبحت لغة رسميّة للدولة، بينما تقلّص دور اللغات الإفريقية المنافسة، إلى مستوى التنفّس فقط، في شئونها الخاصة، داخل إطار الوطن السوداني الجامع.
عبّرت اللغات النوبية عن حضارات عظيمة سادت في شمال وأواسط السودان القديم، ولحقب زمنية طويلة، فاصبح الاهتمام بعظمة الحضارة النوبية، مقروناً بالاهتمام الموازي باللغات النوبية، وما جمعيات الدراسات النوبية داخلياً وخارجياً، إلاّ وجه واحد من عدة وجوه للحفاظ على التراث النوبي الإنساني.
مركز الدراسات النوبية والتوثيق
في منتصف القرن الماضي، برزت وبشكل فاضح، مهدّدات، استهدفت الثقافات الإفريقية بالسودان، بعد أن تبنّت الدّولة السودانية، نهجاً إقصائياً للثقافات الغير عروبو-إسلامية، وأدّى ذلك إلى بروز أشكال متباينة من الهرولة وراء الهويات الإثنية الثقافية، خشية ذوبانها أو اندثارها، ولمّا كانت الثقافات النوبية ولغاتها، مهدّدة بدورها في الصراع المحتدم، إضف إلى ذلك، حملات استهداف مقنّنة للأرض والإنسان النوبي، أبرزها حرمان الإقليم من التنمية، منذ الاستقلال، واغتيال مدينة وإقليم وادي حلفا (1964م)، بقيام السّد العالي، ثمّ تنفيذ سدّ مروي ، والشروع في إقامة السُّدود الجديدة في (كجبار، دال)، بمسوّغات لا ترقى، وفي ظل وجود بدائل منطقية، أثبتتها الدراسات المتخصصة،
نشطت حملات إنقاذ الآثار النوبية المهدّدة، بواسطة ( أفراد، جمعيات، مراكز، وجامعات وطنية وعالمية)، أشهرها تصدّي هيئة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة قبيل قيام السد العالي 63-1964م، كما نهضت مساعي جادة لإنقاذ التراث النوبي ( بيئته وإنسانه)، من قبل أفراد وجماعات نوبية مهمومة في مصر والسودان، منذ منتصف القرن الماضي، تمّ تتويجها بالمبادرة، غير المسبوقة، لمركز الدراسات النوبية والتوثيق،عام ؟؟1900، الذي جعل تداول الكتابة والقراءة بالأبجدية النوبية أمراً ممكناً وواقعاً ملموساً، وبفضل جهود مركز الدراسات النوبية والتوثيق في (القاهرة- الخرطوم)، وحماس النوبيين في السودان ومصر، بات في مقدور النوبيين (الآن) تداول لغتهم كتابياً، بعد ستة قرون من الموات الكتابي الصّارم.
كل روّاد مشاريع الحفاظ على التراث النوبي، مع احترامنا الكامل لهم، اعتمدوا على الجهود والإمكانات الذاتية، وهم يعيشون في جزر منفصلة لا تسمح بتأكيد شيء من التضافر في عمل يستحق النشاط المؤسسي المدعوم مادياً ومعنوياً، باستثناء تجربة مركز الدراسات النوبية والتوثيق في القاهرة – الخرطوم، الذي قام " أيضا" على أكتاف رعيل نوبي مبادر ينطح الصخر في سبيل توعية الشارع النوبي لدعم المركز الجاد الأوحد.
حول كتاب (اورثوقرافيا اللغة النوبية)
النظام الكتابي، مطبقاً على لغة نوبين، باتخاذ كتاب المطالعة لمتولي بدر، كحالة دراسية. محمد جلال أحمد هاشم، ترجمة محمد جلال أحمد هاشم – حسين مختار كبّارة). هذا الكتاب، أصدره مركز الدراسات النوبية والتوثيق، (التاريخ 2008م؟)، لمؤلفه د. محمد جلال أحمد هاشم، باللغة الإنجليزية، وقام المؤلف بترجمته إلى العربية، مع الأستاذ حسين مختار كبّارة. الكتاب من الحجم المتوسط، (حوالي 160 صفحة)، ويجمع الترجمة الإنجليزية والعربية معاً، ومن أهمّ العناوين:
· قصة كتابة اللغة النوبية، خلفية تاريخية
· الأورثوقرافيا أو أنظمة الكتابة
· الصرفصوتيمية مقابل الصوتيمية في نقاربة الأورثوقرافيا
· مراجعة تجربة استخدام اورثوقرافيا النوبية القديمة لكتابة لغة النوبين
· تقييم التعديلات الأورثوقرافية، في كتاب اللغة النوبية، كيف نكتبها nobIn-ga sikkir fAywa،
· نحو اورثوقرافيا نوبيّة
· الكاثاريفوسا أو الكَتربوسا katrabusa : المستوى العالي للغة نوبين
· كتاب "المطالعة" أو مبادئ القراءة لمحمد متولّي بدر
· النظام الصوتي للصوامت القديمة معدّلاً للغة نوبين
· الأبجدية
· الحروف الساكنة المضاعفة والإدغامات
· الكتربوسا والإشكالات النحوية
· التوليد الدّلالي والتركيبي
لا شكّ في أن المرئيات المطروحة في هذا الكتاب، محلّ تقدير الجميع، كونها تمثّل دفعاً جديدا، يتّسم بالجرأة، نحو استكمال مشروع تداول اللغة النوبية كتابياً، عبر استصحاب الجانب الأكاديمي والاستفادة من الكمّ المتوافر من البحوث والدراسات المنجزة من قبل مختصين في اللغات النوبية، والفلكلور النوبي، ولا تعليق لدينا غير الاتفاق مع الكاتب حول ما أورده في خاتمة الكتاب :
"...الكتربوسا النوبية، ليست سوى مشروع في طفولته، حيث لم تتّضح إلاّ معالمه الرئيسية، ولذا لا بد من إجراء المزيد من التمارين الاختبارية، ومن ثمّ مناقشتها وتقويمها، وتكون المنتديات العلمية والسمنارات وورش العمل ضرورية لتحقيق نتائج مثمرة، فالمحاولات التي صدع بها الرّعيل الأوّل من المعلّمين والأكاديميين النوبيين، في سبيل تطوير اورثوقرافيا معتبرة للّغات النوبية قد قُمنا ببحثها هنا، بطريقة ناقدة ومتعاطفة في آن واحد، وفي رأينا أنه من المهم أن تزداد معرفة النوبيين، وبطريقة أعمّ، باللغة النوبية القديمة، وذلك في سبيل تحقيق المزيد من التطوير والتقدّم للكتربوسا النوبية. وممّا يُنصح به أن يتم تجريب الفرضيات الأساسية للكتربوسا في اللغات النوبية الشقيقة الأخرى بجبال النوبة ودارفور،.... وينبغي للشكل النهائي لأورثوقرافيا النوبية أن يُخطّط ويُنفّذ عبر التواصل مع المجتمعات التي تتحدّث باللغة النوبية...." انتهى.
هذا المنظور الذي يتبنّاه الكتاب، يعبّر حقيقةً، عن وجهة نظرنا، مع بعض التحفظات التي، بلا شكّ، ستجد الوقت الكافي لمناقشتها لاحقاً.
إنّ مشروع القاموس النوبي ( م/ف)، الذي نقدّمه هنا، اعتماداً على دراسات خاصة في لغة نوبين (م/ف)، يرفد المساعي الجارية، (الآن)، لإجراء دراسات متعمّقة في أحشاء اللغة الشفهية، واستخلاص شواردها بتنقية أصول الأسماء والأفعال، وابتداع الوسائل الممكنة لتطوير أدائها، ووضع ثوابت مقبولة ومنطقية، تفيد مشوار التداول الكتابي الجّاد، مع استصحاب النشاط النقدي البنّاء، والجُرأة المطلوبة في طرح الآراء، ومدّ جسور التقصّي نحو اللغات النوبية الرّصيفة، بأنحاء السودان المختلفة، لاستكشاف العلائق المفيدة في إبقاء ونشر اللغة النوبية النيلية.