كان
كل شيء يبدو رائعاً وعلى ما يرام، وقد بلغت التاسعة في ذلك العام، أنا كبرى
شقيقاتي الثلاث، والأثيرة عند أبي، ورغم أنه لم يحجّ إلى بيت الله الحرام، فإن جدّي
سمّاه حاج، كان أبي مصاباً بعشق الشاي والجمال، لا يرتوي منهما أبداً، أمي لم تكن
تلبي رغباته المجنونة تجاه الشاي خشية أعباء مالية إضافية، وكنت من وراء ظهرها
أجهز له الشاي، كان أبي أبرع من يقتنص الضيوف، من أبعد المسافات، يحلف بالطلاق
لجلبهم إلى مضيفتنا، لشرب الشاي. في بواكير طفولتي سمعت أمي تملأ الدنيا صراخاً، تهيل
فوق رأسها التراب وهي تندب حظّها، كل ذلك لأن أبي هوى من نخلة طولها متران، ونام
في يقيني أن كل رجل وامرأة يحبان بعضهما كأبي وأمي، أصبح الحب في نظري عبادة، من
المفترض أن يجازى فاعلها ويعاقب تاركها، لأن الله محبة، حتى أنني حملت في أعماقي
وزر خطيبي صلاح، الذي قطعت علاقتي به، أشعر كأن الله سوف يعاقبني.
يتكئ
منزلنا على بقايا قصر قديم، فوق شاطئ النيل، يزعم أبي أنه ورثه من جده الكبير،
قالوا أن جدّي، كان غنياً كثير الأسفار، وله أصدقاء ومعارف كثر، بطول البلاد
وعرضها، يبدو ذلك في سعة مضيفته، ومخلفات حديقته العامرة بجذوع النخل النافقة،
أمام باحته المطلّة على الشاطئ، وقصة الثروة الضخمة التي بدّدها أبي في شبابه،
بكرمه، أو بعبثه وشيطنته مع النساء، كحلت ذلك في النظرات المريبة، والمشاكسات
الداخلية، والتي كانت تحسم دائماً لصالح أمي، كان أبي غاطساً لما فوق أذنيه في
عالم السكر، ويخفي ضعفه بحزم مصطنع أمام الأغراب، ثم ينكفئ أمامها سراً ويعتذر،
بألطف عبارات الاعتذار، بدا لي أن أمي كانت تستمرئ تلك اللحظات المنتصرة، وتجترها
خفية، كنت أسمع همساتها الباكية، عقب كل صلاة، وهي تبتهل إلى الله أن يأخذ بيد
زوجها، وأن يمنّ عليه بفيزة إلى دول النفط، فالهجرة إلى دول البترول، كان ولا زال
حلم أهل قريتنا، المخنوقة بين النهر وصحراء العتمور، " أرض بلا ظل" كما
قالت جدتي عائشة المحسية، رحمها الله. كانت ابتهالات أمي المتواصلة لإبعاد أبي
تضايقني، لأن الرابط بيني وبين أبي ظل يتجاوز حد الأبوة والبنوة، إلى رحاب الصداقة
الهادئة، كنت أهرول إلى ركن المسيد، وأدعو الله في سري، أرجوه ألا يستجيب لدعوات
أمي المتكررة، دون أن يفارقني الإحساس بأنني أرتكب جرما في حق أمي، فأعود للاستغفار الذليل، سألت جدتي عائشة ذات
مرة: أين يسكن الله، فأجابت باختصار، " جلّ جلاله، فوق المسيد"، أنه
سبحانه وتعالى، يتجلّى فوق سقف المسيد، فلم أفهم معنى التجلّي، ولما كبرت أدركت
عمق إجاباتها وضحالة أسئلتي.
الناس
يتوارثون مهنة الزراعة، على ضفاف النيل، في حيازات صغيرة بائسة بين تجاويف الشواطئ
المتآكلة والرمال الزاحفة والجبال الذاهبة إلى أعماق النيل، كان أبي مزارعاً يعتمد
على ما تجود به أرض ساقيتنا الواقعة بأقصى شمال القرية، تحفّها غابات كثيفة من النخل البائس، والذي
لا يسد الرمق، باستثناء ثلاث نخلات، غزيرة الإنتاج قائمة على أكتاف الساقية، أطلق عليها أبي أسماء كريماته، الكبري سماها
بدرية، وذلك هو اسمي، والوسطى آمنة، والصغرى ابتسام، أبي كان فخوراً بنا، رغم حرصه
الشديد على إنجاب ابن ذكر، ليقوم بحمايتنا على حد قوله، فهو يكره لقب " أبو
البنات، الذي التصق به منذ ميلاد شقيقتنا الصغرى ابتسام، في تلك السنوات كانت أمي
تتردد على كل قبور الأولياء الصالحين، تستدر عطفهم بالقرابين، ليساعدوها في إنجاب
ابن ذكر، ليس لأن المساعد الطبي لقريتنا كان ضريراً، بل لأنها لا تؤمن بقبيلة
الأطباء من أساسهم.
جارتي
وصديقة عمري، تمايا الحلبية، لم تكن حلبية، التصق بها الاسم لبياض لونها الفاقع
كالنبقة الناضجة، وبقع الوشم الزرقاء النائمة في ذراعيها وشفتها السفلى، تمايا بنت
جعفرية، ابنة ود البشير الخضرجي، ولدت في نفس يوم ميلادي، وكنا جيرة، فنشأنا كما
التوائم، كانت تمايا متعافية منذ طفولتها، تفوقني حجماً وذكاءً، وكانت الشيطانة
تعرف أنها جميلة، وبها أنفة مغيظة، تنظر إلى شباب القرية من فوق سبع طوابق من
التعالي والعنجهية، تختال كالبطة البرية في طرقات الحي، تهفو إليها الأنظار،
البريئة والخبيثة، كانت تحلم بفارس يأتيها من الأفق البعيد، ليحملها إلى
الموانئ المحتشدة بنوارس البحر، والمدن
التي تعج مصابيحها ليل نهار. تمايا الحلبية كانت يافعة، عندما انهارت أمها جعفرية
في فراش الموت وفي بطنها جنين بائس، حملوها إلى شفخانة القرية، واجتهد الطبيب
العمومي وقرر تحويلها إلى مستشفى المدينة، أهل البلد يقرّون بأن جعفرية لم يقتلها
المرض، جعفرية لم تصمد أمام ويلات وعورة الطريق وبعد الشقة بين قريتنا والمدينة،
وبيروقراطية الإجراءات الميرية، جعفرية ماتت وود البشير لا يجد في جعبته شيئاً
يقدمه أجراً للتسهيلات الرسمية، على عينك يا تاجر، وخلص أطباء المدينة إلى ضرورة
إنقاذ الجنين، بعد أن نفذ وقودهم في إنقاذ حياة الأم، وانحازوا إلى جانب الطفل
التعيس، استخلصوه من أحشاء الأم بعد وفاتها، وعاد بشير الخضرجي إلى قريتنا، بابنته
تمايا، وهي تنوء بحمل شقيقها صابر، فاستقبلتهم القرية بالبكاء والنحيب، وشيئاً من
التشاؤم بالمولود الجديد. أهل قريتنا لا يترددون في مثل هذه الحالات، تتقطّع
أكبادهم على الأيتام الصغار، ولا يهدأ لهم بال حتى يجبروا الأب على الزواج بأخرى،
لتربية الأطفال، سيّما وود البشير ما زال
بخيره، فأشاروا له ففعل، ومن يومها تحكّرت الزوجة الجديدة فوق قلب تمايا وأبيها،
الكثير الترحال، أصبحت ست أبوها أماًً
للفتاة تمايا وشقيقها اليتيم صابر.
شتاءً
أتذكر، والبرد النفاذ يجمّد أجسامنا الصغيرة، في الليل ودفء الموقد، كنا نسمع عواء
الذئاب الجائعة قرب زرائب الحيوانات الأليفة، وأصوات كلاب الحي المرعوبة تنداح مع
صرصرة الريح، وهي تعبث بشراشف سقف حجرتنا المتهرئ، نسمع صوت أبي وهو يترنم بأغنية
قديمة، حفظناها عن ظهر قلب، لكثرة تردادها، فقد كان أبي معروفاً بصوته الجذاب، في
مجالس الطرب وطقوس الأفراح، على امتداد القرى المجاورة، ومعروفاً بولعه المتزايد
بالجميلات، ولمّا كانت أمي جميلة الجميلات في صباها، فقد تعلّق بها أبي وغنى لها
العديد من الأغاني، واصفاً إياها بالقمر والغزالة، وكانت في الحقيقة بطينة جسيمة،
تقول أمي أنها قبلت بالزواج به، ولم يكن أفضل خطابها الكثر، قالت بأنه كان أكثرهم طيبة
وحنانا، كان يلهب مشاعرها ببراءته المفرطة.
في
الجانب الجنوبي من صحن دارنا، ثلاث حجرات متصلة عتيقة البنيان، بأبواب خشبية
بالية، الحجرة الغربية بلا سقف، تستعمل كمخزن للعلف وبعض الحبوب، والوسطي هي حجرة
نومنا، أنا وجدتي وشقيقتي آمنة، تقابلها بالجهة الشمالية ثلاث أخريات، تتوسطها
حجرة خاصة بأبي وأمي، وتشاركهما أحيانا، شقيقتنا الصغرى إبتسام، في فصول الشتاء، أما
في فصول الصيف، فقد كنا ننام جميعاً في الحوش الكبير، وهناك شجرة حناء ضخمة تفصل
بيننا وبينهم.
لأنني
ولدت في شهر طوبة، فأنا أعشق شهور الشتاء وأخشى بردها القارس، وكانت نعاجنا تتكاثر
في ذلك الفصل المزعج، وقد شهدت العديد من عمليات التوليد القاسية تلك، بإصرار من
جدتي عائشة المحسية، الخبيرة في تلك العمليات، كانت المرأة العجوز، تفسر لغة
الأغنام والنعاج، وتهرول في أنصاف الليالي إلى زريبة الأغنام، تعرف صوت النعجة
الجائعة والعطشى، كما تعرف أصواتها المستغيثة، وكانت تصر رغم ثورتنا ورفضنا
الباكي، على أن تشاركنا تلك الحيوانات الصغيرة مرقدنا الشتوي، وتقاسمنا دفء الحجرة
الضيقة، على أية حال، لم تكن تلك الحيوانات الصغيرة، بأنينها ورائحتها النفاذة،
بأكثر ضررا، من رائحة الفروة المقطرنة التي تغطينا.
حبوبة عاشه، جدتي لأمي،
تتوكأ على سبعة عقود ونيف، تتكوّم فوق عنجريب مترهل قرب الموقد الصغير، وقد
عوّدتنا كل مساء، أن تدس يديها في جيوب جرجارها الفضفاض وتنفحنا بعض التمر، قبل أن
تملأ أخيلتنا الصغيرة بحكاياتها المثيرة، فاطنة السمحة، جقل وجقلين، الأصبع، فاطمة
بنت الصقر، أبو الأبّار، كنا نعيش مع شخوص حكاياتها في كهوفهم وسهولهم الواسعة بغاباتها
وحيواناتها المتوحشة، كنا نضحك، نغضب، ونتعارك بأرجلنا تحت الفروة، في مشاكسات
عنيفة، لا تنتهي إلاّ بسقوطنا صرعى في إسار سلطان النوم.
هل من تتمة ؟ البعض منا لا تنعشه رائحة الوطن إلا من خلال القصص الغضة كتلك التي نشرتها، فارو ظمأنا بالمزيد
ردحذف