كان عالمي محدوداً بدرجة بريئة، كنت أعتقد أن بلاد السودان تقع شمالاً، مباشرة بعد كوشة، ومن خلال حكاياتها وقصصها المثيرة تعرّفت على مفردات لغوية، أجدها الآن نائمة في تجاويف الذّاكرة..
البيئة، كانت صديقتي، كنت أحاول أن أجد تفسيراً لأي شيء تقع عليه عيناي،
ولهذا السبب كنت أتلقى لدغات عديدة، من جراء حشر أنفي ويدي في جُحور المجاهيل، كاد
يقتلني ذلك الحبّ الخرافي للاستطلاع.... غير أن الأستاذ محمد صالح قاسم
(من أرض الحجر) والذي قام بتدريسنا في مدرسة عبري الأولية، وصفني بالاهمال، وقال لبعض
زملائه " ذكاء مدفون في الرمال" يومها لم أفهم المعنى العام، ولكنني اعتقدت أنه
يمدحني ويصفني بالذكي.. وكنت "خفية" أشعر
بنوع من الفخر.. أذكر ولا أنسى، جدول الضرب، والضرب المبرّح الذي كان يلازمنا صباح كل
يوم سبت، رحم الله أستاذ مادة الحساب (الرياضيات لاحقاً)، فقد ورّثني كرهاً لا
يزول لتلك المادة المزعجة.. كما أحببت ذلك الأستاذ الرياضي محمد شريف "من
حلفا"، والذي حبّب إليّ مادة التاريخ... والبحث الحثيث.. ربما إعجابي به “ كمعلّم صادق" هو الذي وجّهني للبحث
والتنقيب في ملفات الثقافة والتاريخ
أمّا اللغة العربية، فقد تلقيت دروسها الأولي
وامتهنت عشقها على يد أستاذي الكبير" الراحل حسن أحمد
صابونة" رحمه الله، "معلّم الخلوة" في مباني مدرسة عبري الإبتدائية القديمة، بالجانب
المقابل لقصر الشيخ أحمد خاطر، وبمواجهة بيت محمد عبد الحميد الأزهري (مُمُور)، أقول
بهذا لأنني كنت قادراً، قبل الدخول في المدرسة الأولية، على كتابة خطابات أهل قريتي
"بُلُك"، ببراعة، وكنت كاتم أسرارهم الأمين.. ذات مرة جلست عمّتي نفيسة إدريس
وأمرتني بكتابة خطاب إلى وحيدها عبد العزيز الذي كان يعمل "محولجي" في
السكة حديد بمحطّة كبوشية، وكان قد تأخر في رد خطاب سابق لها.. وكانت تمليني الخطاب وتصرّ على
معاينة ما أكتب (بإعادة قراءة ما كتبت)، وتصاعد غضبها رويداً رويداً، ثم أنها
بكت بحرقة، فكتبت "أمّك بكت وماتت من البكاء" وفي الأسبوع التالي حضر ولدها عبد
العزيز من كبوشية، للعزاء!!
في المدرسة الأولية (الابتدائية حاليا)، تفتّحت
آفاقي الاجتماعية، بوجود تلاميذ من القرى المجاورة، ولا زالت تلك العلائق الحميمة
تقبع في قاع الذاكرة بحلوها ومرّها.. كنت ضمن التلاميذ (الخارجيين) الذين لا يسمح
لهم بالسكن في الداخلية. كان الفقر جامعاً لكل التلاميذ، لم يكن ثمة فوارق بيننا
وبين أبناء التجار المحليين، وفي تلك السنوات ظهرت أولى نوازعي القيادية عندما كوّنت
عصابة من أبناء "عبرساب" للسطو على مزارع البطيخ وأشجار الفاكهة النادرة هنا
وهناك. هناك شائعة غريبة تقول بأن سرقة البطيخ "حلال!!"، وقد أعزو ذلك إلى
روح الكرم والتكافل الموغلة في العلاقات العامة، بحيث أن الجائع والضيف يمكنهم أخذ البطيخ دون
استئذان، ويبدو ذلك من شيوع جلب الرطب من النخيل دون مساءلة مالكيها، عن طيب خاطر..
سوف أتعرض لتفاصيل تلك المرحلة، لاحقاً، ويقيني بأن الأخ اللدود
"حاج" وذلك هو لقب صديق العمر خليل عبد الرحيم.. سوف يحشر أنفه كالعادة، فهو لن يسمح
لي بتناول قصص تلك المرحلة، قبله..
حوالي 1959م، افتتح شباب ورجال عبري ناديهم العريق، على
أرضية نشاط اجتماعي ثقافي رفيع، في البداية تم اختيار منزل عبده
رجب، بجوار مدرسة البنات القديمة، وفي تلك السنة كان الخال عثمان الشيخ إدريس يدير
"البوفيه" المتواضع، ويقدم مشروبات الشاي والكاكاو والسحلب المجلوب من مصر، وسندوتشات
الفول والعدس للراغبين، وكنت حينها أعمل مساعداً لخالي وأقدم الطلبات
للأعضاء المنهمكين في لعب الورق، الطاولة، السيجة، فوق أبراش قديمة.. ولأستاذي الفاضل
شوقي حمزة، هنا، رؤية الرائد، فما زالت اللافتة القديمة التي خطّها بيده على بوابة
النادي، تثير في الأجيال اللاحقة، الإحساس الحقيقي لتواصلها الحتمي الجميل..
ستكون مشاركته هنا، باقة ورد لنا جميعا.
أبي لم يكن مزارعاً، كان يعمل كنّاساً في
القرية مع المرحوم "شحاته" "من عمارة" وتحت إشراف جمال علي خليل، ولاحقاً
فؤاد عبد الرحيم، من عمارة أيضاً. ولذا كنت أقضي أوقات الفراغ في مساعدة أصدقائي،
ومنهم " خليل مسكة" " وعبده سلامة" وزوج خالتي محمد خليل سورته.. واكتسبت كثيرا من
الخبرة وحب جارف للأرض والنبات حين يضجّ بالحياة ويلوّن الحقول بالخضرة اليانعة.. وبرغم
أن فناني وشعراء تلك المرحلة كانوا لا يرون في مهنة الزراعة سوي الفجيعة والذُل
الدائم، وكان مخرجهم الباقي هو الهجرة إلى "مصر، أم الدنيا"، ولو كان بيدي
الأمر كنت أقول لهم، أن السودان النوبي هو أب، وأم الدنيا الحقيقي بشهادة جلّ المؤرخين، في
العالم. ياريت، مصر ما تمشي قدام لاستئصال المتبقي من أرضنا النوبية.. ياريت.
كان لابد من التأني قبل الاسترسال في حكاوي
الصبا المجنونة، أن أعرّج قليلاً على منطقة شمال السكوت، التي شكّلت
ذاكرتي الموسيقية، وثقافتي الحميمة في التعامل مع الآخرين..
لمزيد من التفاصيل عن مركز كوشة، فإن اللورد كتشنر، الذي استقدمه الإنجليز من الهند، لرد السودان
إلى بيت الطاعة، وردّ الاعتبار للتاج البريطاني بعد اغتيال غوردون باشا في قصره
بالخرطوم في 1885م. كان كتشنر قد شرع في مد الخط الحديدي بين وادي حلفا وكرمة، قبل
إنشاء خط حلفا – أبي حمد، حوالي 1898م، عقب انكسار رايات المهدية (الدراويش)، في موقعة "توشكي"،
ويقول بعض المؤرخين أن الخط الحديدي بين وادي حلفا وكوشة، كان
قائماً منذ عهد الباشا محمد علي، وكانت قرية كوشه مركزاً إدارياً، ومحطّة رئيسة للسكة
حديد، ويذكر بعض الرحالة الإنجليز، الذين زاروها،أن كوشة كانت سوقاً رائجة، تكتظ
بأصحاب المهن الشعبية، حدادين وحجّارة، جلاّدين،وفخرانية، وكان موظفي الدولة
من إنجليز وبقايا مصريين، وأفراد من أصحاب الوظائف الدنيا من السودانيين، يعملون في
كوشة، وتشهد أطلال السوق القديم على رواج بشري تجاري كبير، ( رحم الله العمّ حسين
مغازي، فقد حاول بعث بعض الروح في تلك المباني الشاهقة، ولم يفلح)،. ويقال بأن عمّنا
دهب فضل العربي، عاصر سوق كوشة طفلاً، وكان يساعد أسرته في بيع البُرم
والأواني الفخارية، وقد اكتسب منها لقب"دهب ديدي".
شيّد اللورد كتشنر الخط الحديدي من كوشة إلى
"أبو صارة" بعيداً عن قرى سكّوت، في خط مستقيم، ذلك لأن النيل
يغير مساره شرقاً من عبري حتى قرية كوشه،لمسافة "30 كيلو متر" ثم يتجه
شمالا. ويروي بعض المعمّرين من أمثال " أحمد حاج “كومبو"، الذي عمل طاهياً للورد كتشنر، أن
عمّنا " مصطفى إدريس" من أرض الحجر، عمل دليلاً في جيش كتشنر، بينما جاء "زكي
صالح" والد الراحلة "زكية شاية" بعبري، وكان يشغل وظيفة "أشرجي"، سلاح الإشارة،
حتى وصول الجيش إلى كرمة.. وقد كافأه اللورد كتشنر مادياً بينما أصرّ العم " مصطفي
إدريس" على الفوز بتصديق زراعة القمشة في أرض الحجر بصفة احتكارية، وهنا أستنهض الباحث
الشاعر النوبي المهموم إبراهيم عبده، وكل قبيلة (التولّي جاني) لتصحيح هذه المعلومة
لا شكّ أن البوار الذي صادف خط كوشة- كرمة، جاء
بعد أن غيرت الإدارة البريطانية رأيها، وشرعت في إنشاء الخط الحالي(حلفا – أبي حمد)، لتقليل التكلفة، من ناحية،
ولأن المنطقة النيلية من حلفا حتى كرمة والشايقية، لم يكن فيها ما يدعو
لتجهيز جيش لإخضاعها، من ناحية أخرى، وفقدت كوشة أهميتها الإستراتيجية، حتى عام
1914م، وقيام الحرب العالمية الأولى، حيث تمّ اختيار قرية عبري مركزاً إدارياً بديلاً،
حتى عام 1927م، حيث نقل المركز إلى وادي حلفا.
لا بد من رابط بين اسم " كوشة"
وممالك كوش التاريخية، كما أن مرحلة الازدهار التي سادت فيها، ألقت بظلالها
في التكوينات الإثنية -الثقافية للقرية، كعموديتها التي تضم خمس بلدات، ووجود
أسرة " برهان"، التي تقوم بعلاج مرض السرطان الحميد "كشرا"، ويسميها
البعض " بُرهامي" وتحتكر أسرة الشيخ يعقوب برهان أسرار تلك الوصفة العلاجية ويتوارثونها بشكل
صارم حتى الآن،
في كوشة، عاشت خالتي حرم الشيخ، وينتظم أبناؤها وبناتها في
عقدهم الاجتماعي المتكافل، الأمر الذي جعلني جزءاً لا يتجزّأ من تلك القرية، وهم أناس
مسكونون بحب الغناء، والذكاء والأريحية.
عمودية كوشة تضمّ كوشة –مفركة –فركة – سركمتو ودال" وتمثّل القطاع الأكبر من شمال السكّوت، وهي منطقة غنية بالآثار، والشخصيات القومية المؤثرة، وسأكتفي بذكر العلاّمة الموثّق والمحقّق الراحل محمد إبراهيم "أبو سليم”، مؤسس دار الوثائق المركزية، عن جدارة، والدكتور عبد القادر شلبي، وهو علم على رأسه ألف شعلة حبّ للأرض النوبية، مدّ الله في عمره، أما الشيخ جعفر دسوقي، الطبيب الإنسان فعاش في فركة، بحضن " جبل ميمي" وأصل الاسم "جبل موليه". وفي مفركة، تعيش أسرة سمل العريقة، وتنتشر فيها بطون الولياب بكثافة، كما ورد في كتاب "الولياب” للاستاذ محمد عثمان فركاوي.. وكانوا حكّاماً لمنطقة سكوت وأجزاء من المحس،وتوجد مقبرة آخر ملوكهم " أحمد كاره" في كوشة، ولا أنسى الفنانين (أحمد آغا، من كولب، والفنان حسن خيري في جزيرة سرقد، والفنان صالح تينة " فركة – سابون)،، والفنان محمد خيري شنان، والشاعر المتمرد محمد مختار عبدون وشقيقه الشاعر عبد الرحيم، في سركمتو، والشاعر الإنسان "مندق على الأزهري"، في فركه..
عمودية كوشة تضمّ كوشة –مفركة –فركة – سركمتو ودال" وتمثّل القطاع الأكبر من شمال السكّوت، وهي منطقة غنية بالآثار، والشخصيات القومية المؤثرة، وسأكتفي بذكر العلاّمة الموثّق والمحقّق الراحل محمد إبراهيم "أبو سليم”، مؤسس دار الوثائق المركزية، عن جدارة، والدكتور عبد القادر شلبي، وهو علم على رأسه ألف شعلة حبّ للأرض النوبية، مدّ الله في عمره، أما الشيخ جعفر دسوقي، الطبيب الإنسان فعاش في فركة، بحضن " جبل ميمي" وأصل الاسم "جبل موليه". وفي مفركة، تعيش أسرة سمل العريقة، وتنتشر فيها بطون الولياب بكثافة، كما ورد في كتاب "الولياب” للاستاذ محمد عثمان فركاوي.. وكانوا حكّاماً لمنطقة سكوت وأجزاء من المحس،وتوجد مقبرة آخر ملوكهم " أحمد كاره" في كوشة، ولا أنسى الفنانين (أحمد آغا، من كولب، والفنان حسن خيري في جزيرة سرقد، والفنان صالح تينة " فركة – سابون)،، والفنان محمد خيري شنان، والشاعر المتمرد محمد مختار عبدون وشقيقه الشاعر عبد الرحيم، في سركمتو، والشاعر الإنسان "مندق على الأزهري"، في فركه..
وللحدادين وجود مكثف في كوشة، الراحل فرح تبد، وهمّد عبد الله، وسيد
تبد وشيخ الدين، والباحث النوبي المتّقد سمير بكاب،، والشاعر محمد فضل بكاب،
وبما أن المجال لا يتسع لذكر الجميع، فليعذرني كل من خانتني الذاكرة في استحضاره هنا.. كانت كوشة وكل قرى شمال السكوت، هي جنتي الوارفة التي أهرب إليها حين
يدْلهِمّ الجو، فحبّهم للغناء والرقص والمرح، هو كل كانوا يملكونه للصمود بوجه غارات
الظلام السياسي ورياح الخماسين القادمة من جحيم صحراء العتمور.. والفقر النبيل
وفي هذه المنطقة النائمة على ضفاف النيل، تكسّرت أنياب جنود " حسن
قوشي " التركية السابقة" حوالي 1405م (؟)، عندما أرسله الوالي من استانبول لاستعادة سلطة
" مملكة كوكّة" بعد سقوطهاا على يد جيش المغاربة.. (ولا ندري.هل كانوا من المغرب،
أم من كردفان ودارفور؟)، لهذا الحسن قوشي ينتسب العديد من سكّان السكوت، ومنهم
"المقدباب" بعبري. أمّا حاكم "كوكّه الجديد" سُكّر" فقد جاء مع الحملة
برفقة أخيه جامع، الذي أصبح شيخاً للإسلام في المنطقة، وعاش في السّكوت،وينتسب إليه العديد
من الأسر في السكوت.. كما أن " أنساب المحس" المستخرجة من الكتبخانة المصرية في
1956م، يرتكن على مقدم "سُكّر" الذي يزعم انتسابه إلى كعب الأنصاري
قال القائد التركي الذي لاقى مقاومة شرسة من النوبيين عند جبل
ميمي في فركة" أحذورا هؤلاء النوبيين، فإنهم يأتون مع زبد البحر
سوف يطول حديثي عن هذا الجزء العزيز من منطقة
سكّوت، عندما أتحدّث عن الغناء الشعبي النوبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق