مكي علي إدريس
الرياض ديسمبر 2007م
يوم ولدت شقيقتي الصغرى إبتسام، خرجت عمّتي زينب من غرفة الولادة، وقذفت بالخبر في وجه أبي: جابت بنت، قالتها بحزن عميق، كأنها تعتذر لأبي الذي لم يبتهج بالمولودة الجديدة، حتى أنه لم يهرع إلى الداخل ليطمئن على أمي التي رقدت كالجنازة، لفرط إحساسها بالغبن، كان أبي قبيل تلك اللحظة بساعات، يدعو الله العلي القدير أن يعوّضه بمولود ذكر، كتب اسمه بخط رديء، على باب منزلنا المصنوع من خشب السيّال، وذلك لم يحدث... فعشّش الحزن في قلب أبي، كأن أمي هي التي اختارت جنس الجنين البائس، وكبرتُ وكبر معي هذا الإحساس السلبي المشوّش تجاه جنس الذكور.
أنا كُبرى ثلاث إناث ولدن على التوالي في أسرة ريفية، بضفاف النيل الشمالي، أشجع فريق برشلونة كنوع من الانتماء الوجداني الحُر، فكثيرون من مشجعي فريق الهلال الوطني، يتابعون انتصارات فريق الهلال السعودي، بفوح الاسم الرّنان، كضريبة مستلفة لهلالهم السوداني البعيد عن ساحات الانتصار، وأحب منتخبنا الوطني برغم هزائمه المرة، منذ بروز لافتة الرياضة الجماهيرية في سنوات أبونا وقائدنا الملهم، كنت أمارس السياسة من بين صفوف المستقلين في الجامعة..
زوجي مبعوث قديم في أرض الحرمين، وقد وفّر لي حياة أسرية مستقرة، تتخللها اجتماعيات محدودة، مضت عشر سنوات من زواجي ولم أنجب حتى الآن، وأعيش حالة مقرفة من الوحدة والتقوقع، ياه!! ما أقسى الحظ العاثر في الغربة!! أعترف بأني لم أتزوج عن قصة حب، كتلك التي يحلم بها المراهقون والمراهقات، ولكنني أقدس العلاقة التي تربطني بزوجي، وأناضل من أجل إبقائه دوماً في دائرة اهتمامي، ولأن سنوات البريق قد انزلق أكثرها، فلا وقت لمغامرة بحث عن مستقبل آخر وردي اللون، ولا أدري، هل أنا سعيدة مع زوجي أم لا، فمن الصعب وضع معايير محدّدة للسعادة في هذه المهاجر البعيدة عن بلادنا الدافئة بالأمن الاجتماعي والتسامح العتيق، فالمهاجرون هنا أنواع متعدّدة، هناك نوع من المهاجرين الباحثين عن الذّات بطوعهم وإرادتهم وقدراتهم المادية والمعنوية، وهؤلاء يأملون كثيراً في العودة الغانمة إلى الوطن الحبيب، بأقصر الطرق، وهم قلّة كصالحٍ في ثمود، أما النوع الثاني فهم الهاربون من مسغبات الأزمنة الرديئة وغلالات الفقر المعششة في أطراف الوطن، المفروش على مليون ميل من الخيرات المدفونة والظاهرة للعيان، المشرئبّون إلى ما وراء شعاب الفقر المقيم، وهؤلاء يتصيّدهم بغاث الاحتيال والسخرة، بقدر سذاجاتهم وموت ضمائر أصحاب القرار، وأحياناً لعدم احترامهم لأنظمة البلد المضيف، منهم من تقطّعت بهم السبل في أسواق العمالة المهرولة وراء الكفاءة المختبرَة، فعادوا عاطلين رغم أنوفهم، على أملٍ يتراوح فوق أجنحة السراب، يستبقيهم فوق جمر الفرج البعيد، وهؤلاء يمثلون قطاعاً مستميتاً في استنساخ التجربة المُرّة جيلاً بعد جيل، هل أتحدّث في السياسة إذا قلت أن هؤلاء المهاجرين يريدون العودة إلى الوطن، عند زوال الأسباب التي أجبرتهم على الهجرة، وإن على حكومات بلادي وضع هذا في الاعتبار؟ ما علينا، ولكن أسمحوا لي بأن أهمس"أنّ هناك صنفاً آخرَ من المغتربين أصابتهم الكآبة ممّا يجري في بلادهم، فوطّنوا أنفسهم تماماً على البقاء الأبدي في مهاجرهم، فإذا زرت أحدهم في منزله، طالعتك بعض الصور العتيقة لدفوفة كرمة وإهرامات مروي القديمة، وبعض الرسوم والتحف والأناتيك المعبرة عن حوض النيل، ولا شيء غير ذلك يعبّر عن الوطن، الذي مات في قلوبهم وعاداتهم.
أدوّن هذه الخربشات في دفتري الخاص من وراء زوجي، فالأزواج عموماً يتحسسون رجولتهم عند رؤية أوراق الزوجة الخاصة، ومهمتهم هنا ليست إشرافية، بل وصاية يكتسبونها ساعة التوقيع على القسيمة، الوصاية المبنية على أساس الإنفاق والحماية منذ أقدم العصور، فلا غرابة في أنّ زوجي الطيّب لا يشعر بالفراغ والوحدة التي أعانيهما، يعتقد أنه أغرقني في بحور السعادة، هل قلت لكم أننا طرقنا كل أبواب العلاج لاستكمال زينة الحياة الدنيا؟، لقد فعلنا ذلك مراراً دون طائل، وكان بعض القادمين من الوطن في إجازاتهم، يحملون إليّ أشواق أمي وأبي وأخواتي، وشيئاً من تلك الأوراق الملفوفة بإحكام في أغلفة جلدية، لحجب أعين الشياطين وفكّ العارض، أنا قليلة الثقة بتلك الأمور.
أجالس المرآة كعادتي كل صباح، بعد أن يغادر زوجي إلى دوامه الطويل، أتصفح وجهي الطبيعي يمنة ويسرة، تحبطني خطوط العمر التي ارتسمت بعناد حول أجفاني الواسعة. هذا الصباح، مددت يدي للأحمر القرمزي وشعرت بأن شيئاً غير طبيعي يصادر بهجة يومي، شفتي تؤلمني بشدة، لا أستطيع الضحك ولا الابتسام، لعلها المعدة اللعينة، الإمساك المزعج الذي ظل يلازمني منذ سنوات الطفولة.
رنّ في هاتفي المحمول رقم غريب غير معتاد، ترددت طويلاً قبل أن أفتح الخط، وجاءني صوت صديقة عمري تمايا الحلبية!! فصرخت واااااي، مش ممكن ما معقولة يا بت، مستحيل، ودخلت في بكاء هستيري، قالت أنها عادت لتوّها من ماليزيا، مع زوجها المبعوث هناك منذ أعوام، ابتهجت لعودتها، ومنذ ذلك الصباح صارت صديقتي تمايا أيقونتي في المهجر الجاف، التي أهرب إليها حين تتعذر الرؤية وتدلهم الأوضاع بيني وبين زوجي مدحت، تمايا نفسها هي التي أخبرتني بما حدث لوالدها ود البشير الخضرجي، ومنذ تلك الفترة تلوّن دفتري بسيرة ود البشير وناس قريتنا، وطفولتي ومرتع صباي... وأشياء أخرى صدئة تنام في تلافيف الذاكرة، منذ أيام الطفولة البعيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق