النوبيون يتميزون بروح التضامن والإلفة، هكذا جبلوا، شأن الجماعات العتيقة على ضفاف النيل المارد، وفي إطار ذلك النظام الاجتماعي الصارم، الناهض على تقسيم الأدوار في حياة مجتمع الساقية، أو شيئاً من روح التضافر الموروثة لمواجهة تقلبات أمزجة الحكام ولسعات الغزاة والشعوب المستعمِرة، أو كل شيء من حكمة لقمان الحكيم. يتداولون لغتهم النوبية كقرن استشعار للتعارف وتبادل المصالح وتحقيق الأمان المعنوي، إنها روح الفريق التي قامت على أساسها المجتمعات، ويسميها بعض ذوي الأغراض من السياسيين عنصرية، ولكن هل يشتكي سكان العاصمة من وعورة الطرق؟ ليس هناك طريق اسمه" طريق الموت"، وليس في مجتمع المدينة من يمتلك مائة جوال من القمح، ثم يردّه غفير المستشفى لعجزه عن دفع قيمة تذكرة الدخول، بل يحدث ذلك في قريتنا، في بقعة تفوح بالسّحت الزاكم للأنوف، والفساد الذاهب في اللباب والقشور، لا أسواق لبيع المحاصيل، لقد أقفلوها بأمر تجّار الحكرة وسياط قوانين الحكام، في تبادل أدوارٍ تحكمها الحنكة ولعبة المصالح. ولا شأن لنا بالسياسة، ولكن لا بد للمرء أن يحب موضعاً عزيزاً عليه في هذا الوطن المترامي، قرية، قبيلة، مدينة، عشيرة، دون أن يكره الأطراف الأخرى، أنا زعيمة بأن النظام المركزي المفروض بقوة المستعمر أنتج هذا الواقع، ظروف تاريخية – قبلناها أم رفضناها- أفرزت هذا النسيج المتلاطم والمتباين، الذي يستريح فوق هذا المليون ميل مربع، ببداوته ومدنيته، أنهاره وصحاريه، كنوزه وسماواته المتقلبة الأمزجة. كل الحلول التي جاءت لحلّ أزمات الوطن لم تفلح في إرساء الأمن الداخلي، أنا أنادي بإجراء عملية جراحية لعقول أهل بلدي، ليستوعب وعيهم الفرق بين جمال التسامح البنّاء وبشاعة الدم المسفوك، لا بد من تدبّر الفرق الضئيل بين إغراءات الطمع وتحدّيات الطموح، وهذا لا يتم إلاّ بتعجيل إجراء العمليات الجراحية، بمباضع العلم والحرية والعدالة والأمن، والعرس الديمقراطي البهيج، تُجرى في مشافي الوطن العامرة بألوان الطيف البرّاقة الساطعة، الشايلة لكل داء دواء، فاحت رائحتها الزكية منذ آلاف السنين، وأشتم فيها الآن عبق الياسمين، وطعم نسمة صباحية عابرة في صباح يومٍ وسيم.
لا زلت أذكر صلاح ود شلوية ست الزار، فأنا لم أكرهه وإن كنت لا أشعر بسطوة ذلك الحب الطفولي الذي جمعنا ذات مراهقة، ولا زالت أطياف المودّعين الغُبُش، تلوّح كعقارب السموم، أمام البص الذي أقلّنا إلى الكلاكلة، كان ذلك يوم رحيلنا الحزين إلى المدينة، ولا وقت لسرد تفاصيل قصة حصولنا على موطئ قدم في تعويضات الكلاكلة شرق، وكيف استقر بنا الحال في المدينة. هبطت أسرتنا، شأن مئات الأسر الأخرى المهاجرة، في شوارع الخرطوم كالطرشان في زفة المولد، وقد أخذتنا روعة أضواء النيون وبهرجة الشوارع، رغم بساطة المظهر وكساد اللغة، آلاف الأسر جاءت إلى العاصمة بحثاً عن فرص العمل والتعليم والعلاج، وهروباً من بؤس الواقع المفتقد لأبسط مقومات الحياة العصرية، جاءوا من القرى المنبسطة فوق ضفاف النيل، يحملون في أفواههم نكهة رطانةٍ، فرّخت كل لغات الأرض، وإن أنكر المنكرون، هبطوا إلى مستنقعات الزّيف، كرصفائهم من أركان البلد الأربعة، فهم – برغم كل شيء- أناس مهمّشون على السليقة، حتى وهم يرتعون في ظواهر المدن، وشواطئ موانئ النفط الخليجية.. شفتو كيف؟.. ناس حلفا الجديدة هربوا من خشم القربة إلى ريف جبل أولياء؟ إنهم كالأسماك لا يروق لهم عيش إلاّ في تلك الجحور التاريخية العتيقة، فهم صنّاعها، وللبيئة في حياة الإنسان فصل الخطاب، صدّقوني. مش تقولي لي ديل كتّلوهم وناس همّشوهم، وناس جوّعوهم وآخرين اتّلحوهم غرق في غرق؟؟ "كلّوق ايرجّو!!!! تُبّ.
في تلك السنوات، عشنا كديدان المستنقع خارج إطار الحقوق والواجبات العامة، لأننا جئناها دون تخطيط مسبق، ولم نتبيّن كنه الحياة فيها، إلاّ ضحى الغد.
حصل أبي على وظيفة منسق حدائق " غفير"، بإحدى الجامعات الجديدة، واكتملت فرحة الأسرة بعد أن قِبلت وزارة المالية طلب تعييني موظفة استقبال براتب مقبول، بالكاد يسد الرّمق، كانت جدتي عائشة – رحمها الله- تحذرني من رفض العريس الأول، قالت أن ذلك يجلب النحس، تذكرت هذه النصيحة عندما تقدّم أحد أصدقاء والدي في العمل، تقدّم لخطبتي، فرفضت فكرة الزواج من أساسها، لأن الرجل كان كهلاً ومريضاً لا يرجى شفاؤه، رفضت أن أكون ممرضة. كنت قد صعدت العشرين بخمس فيضانات، وبدأت أفكر في الزواج على نحوٍ جاد، كثر اهتمامي بتفاصيلي الخاصة، ورحت أرسم شكل خيامي وأحدّد زوايا خياراتي، أتلهّف لكل خاطرة تخترق جدار الانتظار القاسي، وذات يوم ضجّت الأفراح في بيتنا، عندما هبط قطار الحظ لينتشل شقيقتنا الوسطى آمنة، تزوّجها بعض أقاربنا المهاجرين، وقطع بها الأطلسي إلى فيرجينيا، وحين عبرت شقيقتي الصغرى ابتسام ذلك الخط الوهمي بين الطفولة والنضج، جفّ حلقي ويبست مفاصل السنوات الأخيرة من عقدي الثالث، قتلني خوفي من العنوسة، يا جماعة، البنت في قريتنا تتزوّج وتنجب قبل العشرين، وتحمل حفيدها في أواسط الثلاثين، دي مصيبة شنو دي؟، خلال السنتين التاليتين، دقّ بابي ثلاثة خطّاب، وكانوا عملات ورقية زائفة، أحدهم أصرّ على زواج شقيقتي ابتسام، وكانت جميلة خلقة وأخلاق، أنا كنت من الرافضين، لأن العريس كان سياسياً قضي نصف عمره خلف قضبان الأنظمة السياسية، ولكن الشافعة وافقت بحماس جعل الدم يغلي في عروقي، ووافقت الأسرة على الزيجة، ألقموني طوباً ووصفوني بالعانسة الخائبة، "فرّازة الرجال"، أشهد بأن الفتاة في رحلة الانتظار الطويل، تصاب بالملل والضجر، ما يدفعها لقبول خيارات جديدة بمواصفات فيها الكثير من التنازل، والانحناء في كثير من الحالات، وأنا كنت واحدة منهن، يبدو أنني كنت أبحث عن وجه صلاح بين وجوه خطّابي الكثر، أبحث عن ذلك السطوع الذي كان يعتريه، حين أحسست به لأول مرة، ولكنه كان داكنا وبائساً، حين سقط من قلبي، ولمّا طال الانتظار، قبلت بالزواج من مدحت، زميلي في العمل، جذوره محسية، وقد بدا لي شخصاً عادياً، لا شيء فيه يثير الحفيظة، أو يهزّ الكيان، سوى أنه كان تقدمياً، اشتراكي النزعة، حقانياً بمعنى الكلمة، ولكنه بعد أن وثّق القسيمة وأخذني إلى بيته، عاد فارغاً من كل محتوى، ولا أصمد أمام التفصيل، لن أقدر...
كتب التاريخ تتحدّث كثيراً عن المرأة فوق أرض بلادي، كانت تسوس وتتقلد المناصب، الكنداكات تسلّقن سلالم المجد عن جدارة، بكامل أنوثتهن، كما الطبيعة، والشمس والسلطة والثقافة، شُبّهت بالقمر وكانت ملكة، بلقيس، كليوباترا، الكنداكات، منهن من دوّخت الرومان وهزمتهم، فوق تلك الأرض، ومنهن من سار إليها ركبان الباحثين عن علوم الدين، فتحية النوبية بأسوان، إنهم يتشرفون بحمل أسماء أمهاتهم، ويحلفون بأسمائهنّ عند القسم، وفجأةً ينحدر ذوقهم الأنثوي إلى مستوى المثل " المرا كان بقت فاس ما بتكسر رأس"!! إنها الهزيمة التاريخية للوعي بالأنثى صانعة التاريخ. قرأت في الإنترنت، قصة بعنوان "رحّال الهجين" فوبيا السفر وجدلية الخوف الجرأة ( قصة تحليلية للشخصية السودانية)، للكاتب السوداني، بابكر عثمان مكي، ورد فيها،(.... كم هي ضعيفة المرأة السودانية، لم يكن لها الحق في اختيار وجهها في ذلك الزمان الغابر، ربما لكي تفخر، لابد من جرح، حتى وهى صغيرة يجرحونها جرحاً "بليغا"، حتى تفتخر بعفتها عندما تكبر، عفة تكلفها "أحيانا" الموت حين تعسر الولادة، أو أن تشبه قطعة ثلج في فراش الزوجية، ومأساتها الحقيقية هي عندما تكبر.. يكون مصيرها معلقا" على عقارب الساعة تعانى الوحدة وتخاف الجرأة وتنتظر الوهم والسراب، فإما أن توضع في مصاف الأمهات إذا ضرب الحظ، أو المطلقات والعانسات إذا كانت غير محظوظة، وبين هذا وذاك نوع من القيود البلهاء في إدارة تصرفاتها من قبل الأب أو الأخ أو الزوج وتصبح تلك القيود مشنقة، إذا تجاوزت هي حد ذلك الجرح بالخطيئة ...)، الله ينصفك يا بابكر، والشكوى لله ولا لغيره.
لا يسألن أحد، ما علاقة هذا السرد بود البشير، الذي أنزل رحاله بإحدى الجمعيات النوبية في العاصمة الوطنية، ببلد الرسول، هل تذكرون قصة "عبّودي" في ملاحم الشاعر النوبي إبراهيم عبده، وهو من روّاد الشعر النوبي الرّاهن، يلتقي مع مندق الأزهري ومحمد مختار عبدون، والفاتح شرف الدين، في جدّهم الكبير، عشق الأرض ولثم التراب، رصد إبراهيم عبده شخصية "عبّودي" المسكين، المهاجر الذي سبح البحر الأحمر وصارع حيتانه وثعابينه، ثم عاد لأهله ببصلة، كذلك سبح ود البشير، بسماحة السوداني الأصيل، في نيل الجمعيات، واستظل بنخيلها وأشجارها الوارفة ردحاً من الزمان، واستأنس بقططها السمان، وتعلّم لغة عربية معوجة الخصر، تلك التي فرضها الوجود الشرق- آسيوي المكثّف.
بأول الأمر، استلم ودّ البشير عمله في مطعم يقدم الوجبات السودانية، وبعد أن رتّب أموره، جلس يتفحّص ورقة الطلبات، عاوده الحنين إلى ابنه صابر، تذكّر زوجته جعفرية، ترحّم عليها، خاطبها همساً: ً" ليتك كنت معنا الآن"، ثم هرول إلى مركز الاتصالات، وصبّ أخباره وأخبار الآخرين في أذن عبد العظيم صاحب محل الاتصالات في البلد، وطلب منه استحضار زوجته ست أبوها، ليسلّم عليها بحرارة، ثم استمع إلى صوت ابنه صابر وبكى، لأول مرة في حياته، سمع صوته وهو يبكي داخل الكابينة، ساقته أقدامه المتعثرة إلى الجمعية، وشال هموم الغربة والوحشة بأجلّ معانيها.
أمس الأول، جاءنا خبر وفاة جارتنا شلبية الطهّارة، التي قامت بختان كل أندادي من الفتيات والصبيان في البلد، أنا أعتقد بأن هذه العادة القديمة لها علاقة بالطقوس العبادية لأديان قديمة، لم تجد العزيمة الحقيقية لاستئصالها في مجتمعاتنا، لأنها كعادة موروثة، تحتمي بحائط سميك من إفرازات السلوك الاجتماعي الخفي، تلعب فيه النساء دوراً بغيضاً، وباتت في حاجة ماسة لسن قانون صارم لاستئصالها لحماية بنات حواء من آثارها السالبة.
كان لود البشير أرضا زراعية، مساحتها خمسة أفدنة، بشاطئ الضفة الغربية لقريتنا، يزرع فيها بعض الخضر والبقوليات، ويقوم ببيعها في سوق الحي، كان ذلك قبل اغترابه إلى أرض الحرمين، وقد بذل ود البشير أقصى ما أوتي لتحقيق مطالب ابنه الوحيد صابر، كان قد استعد لبيع بعض نخيله لتوفير نفقات تعليمه، ولكنه اغتم كثيراً لرسوب ابنه، على مدى ثلاثة أعوام، في الدخول إلى الثانوية العليا، فاضطر لدفع رشوة معتبرة لمن يهمهم أمر تعيين ولده في وظيفة محصّل بإدارة المياه الريفية بالقرية، وقد باشر صابر مهام وظيفته الجديدة بكل الصرامة والحدة، فلم يحبه أحد، لأنه – كما يزعم ناس البلد- نصب نفسه مأموراً للضرائب، بوجهه المكفهر ومداهماته المحرجة للمفلسين من ضحاياه، ومساومات خسيسة، يستنكفها العوام من أهل القرية، لا تخلو من مقايضات لا أخلاقية. لم يجد صابر وقتاً كافياً لأعباء الزراعة فقام باستئجار الأرض لبعض الأغراب مقابل جزء من المحصول، وعاش وحيداً في منزل أبيه بعد زواج شقيقته تمايا وسفر والده ودّ البشير، أصبح البيت عاجاً برفقاء السوء من كل صنف، وفاحت سمعته السيئة في القرية. أنتم لا تدركون مأساة إنسان القرية حين تسوء سمعته، أجاركم الله، إن شرف الإنسان القروي لا ينفع صاحبه إذا خدش مرة واحدة، كالزجاج ، كماء الوضوء، والخداع في نظرهم كبيرة من الكبائر.