المشاركات الشائعة

الجمعة، 20 يوليو 2012

ود البشير ج خامس



النوبيون يتميزون بروح التضامن والإلفة، هكذا جبلوا، شأن الجماعات العتيقة على ضفاف النيل المارد، وفي إطار ذلك النظام الاجتماعي الصارم، الناهض على تقسيم الأدوار في حياة مجتمع الساقية، أو شيئاً من روح التضافر الموروثة لمواجهة تقلبات أمزجة الحكام ولسعات الغزاة والشعوب المستعمِرة، أو كل شيء من حكمة لقمان الحكيم. يتداولون لغتهم النوبية كقرن استشعار للتعارف وتبادل المصالح وتحقيق الأمان المعنوي، إنها روح الفريق التي قامت على أساسها المجتمعات، ويسميها بعض ذوي الأغراض من السياسيين عنصرية، ولكن هل يشتكي سكان العاصمة من وعورة الطرق؟ ليس هناك طريق اسمه" طريق الموت"، وليس في مجتمع المدينة من يمتلك مائة جوال من القمح، ثم يردّه غفير المستشفى لعجزه عن دفع قيمة تذكرة الدخول، بل يحدث ذلك في قريتنا، في بقعة تفوح بالسّحت الزاكم للأنوف، والفساد الذاهب في اللباب والقشور، لا أسواق  لبيع المحاصيل، لقد أقفلوها بأمر تجّار الحكرة وسياط قوانين الحكام، في تبادل أدوارٍ تحكمها الحنكة ولعبة المصالح. ولا شأن لنا بالسياسة، ولكن لا بد للمرء أن يحب موضعاً عزيزاً عليه في هذا الوطن المترامي، قرية، قبيلة، مدينة، عشيرة، دون أن يكره الأطراف الأخرى، أنا زعيمة بأن النظام المركزي المفروض بقوة المستعمر أنتج هذا الواقع، ظروف تاريخية – قبلناها أم رفضناها- أفرزت هذا النسيج المتلاطم والمتباين، الذي يستريح فوق هذا المليون ميل مربع، ببداوته ومدنيته، أنهاره وصحاريه، كنوزه وسماواته المتقلبة الأمزجة. كل الحلول التي جاءت لحلّ أزمات الوطن لم تفلح في إرساء الأمن الداخلي،  أنا أنادي بإجراء عملية جراحية لعقول أهل بلدي، ليستوعب وعيهم الفرق بين جمال التسامح البنّاء وبشاعة الدم المسفوك، لا بد من تدبّر الفرق الضئيل بين إغراءات الطمع وتحدّيات الطموح، وهذا لا يتم إلاّ بتعجيل إجراء العمليات الجراحية، بمباضع العلم والحرية والعدالة والأمن، والعرس الديمقراطي البهيج، تُجرى في مشافي الوطن العامرة بألوان الطيف البرّاقة الساطعة، الشايلة لكل داء دواء، فاحت رائحتها الزكية منذ آلاف السنين، وأشتم فيها الآن عبق الياسمين، وطعم نسمة صباحية عابرة في صباح يومٍ وسيم.
لا زلت أذكر صلاح ود شلوية ست الزار، فأنا لم أكرهه وإن كنت لا أشعر بسطوة ذلك الحب الطفولي الذي جمعنا ذات مراهقة، ولا زالت أطياف المودّعين الغُبُش، تلوّح كعقارب السموم، أمام البص الذي أقلّنا إلى الكلاكلة، كان ذلك يوم رحيلنا الحزين إلى المدينة، ولا وقت لسرد تفاصيل قصة حصولنا على موطئ قدم في تعويضات الكلاكلة شرق، وكيف استقر بنا الحال في المدينة. هبطت أسرتنا، شأن مئات الأسر الأخرى المهاجرة، في شوارع الخرطوم كالطرشان في زفة المولد، وقد أخذتنا روعة أضواء النيون وبهرجة الشوارع، رغم بساطة المظهر وكساد اللغة، آلاف الأسر جاءت إلى العاصمة بحثاً عن فرص العمل والتعليم والعلاج، وهروباً من بؤس الواقع المفتقد لأبسط مقومات الحياة العصرية، جاءوا من القرى المنبسطة فوق ضفاف النيل، يحملون في أفواههم نكهة رطانةٍ، فرّخت كل لغات الأرض، وإن أنكر المنكرون، هبطوا إلى مستنقعات الزّيف، كرصفائهم من أركان البلد الأربعة، فهم – برغم كل شيء- أناس مهمّشون على السليقة، حتى وهم يرتعون في ظواهر المدن، وشواطئ موانئ النفط الخليجية.. شفتو كيف؟.. ناس حلفا الجديدة هربوا من خشم القربة إلى ريف جبل أولياء؟ إنهم كالأسماك لا يروق لهم عيش إلاّ في تلك الجحور التاريخية العتيقة، فهم صنّاعها، وللبيئة في حياة الإنسان فصل الخطاب، صدّقوني. مش تقولي لي ديل كتّلوهم وناس همّشوهم، وناس جوّعوهم وآخرين اتّلحوهم غرق في غرق؟؟ "كلّوق ايرجّو!!!! تُبّ.
في تلك السنوات، عشنا كديدان المستنقع خارج إطار الحقوق والواجبات العامة، لأننا جئناها دون تخطيط مسبق، ولم نتبيّن كنه الحياة فيها، إلاّ ضحى الغد.
حصل أبي على وظيفة منسق حدائق " غفير"، بإحدى الجامعات الجديدة، واكتملت فرحة الأسرة بعد أن قِبلت وزارة المالية طلب تعييني موظفة استقبال براتب مقبول، بالكاد يسد الرّمق، كانت جدتي عائشة – رحمها الله- تحذرني من رفض العريس الأول، قالت أن ذلك يجلب النحس، تذكرت هذه النصيحة عندما تقدّم أحد أصدقاء والدي في العمل، تقدّم لخطبتي، فرفضت فكرة الزواج من أساسها، لأن الرجل كان كهلاً ومريضاً لا يرجى شفاؤه، رفضت أن أكون ممرضة. كنت قد صعدت العشرين بخمس فيضانات، وبدأت أفكر في الزواج على نحوٍ جاد، كثر اهتمامي بتفاصيلي الخاصة، ورحت أرسم شكل خيامي وأحدّد زوايا خياراتي، أتلهّف لكل خاطرة تخترق جدار الانتظار القاسي، وذات يوم ضجّت الأفراح في بيتنا، عندما هبط قطار الحظ لينتشل شقيقتنا الوسطى آمنة، تزوّجها بعض أقاربنا المهاجرين، وقطع بها الأطلسي إلى فيرجينيا، وحين عبرت شقيقتي الصغرى ابتسام ذلك الخط الوهمي بين الطفولة والنضج، جفّ حلقي ويبست مفاصل السنوات الأخيرة من عقدي الثالث، قتلني خوفي من العنوسة، يا جماعة، البنت في قريتنا تتزوّج وتنجب قبل العشرين، وتحمل حفيدها في أواسط الثلاثين، دي مصيبة شنو دي؟،  خلال السنتين التاليتين، دقّ بابي ثلاثة خطّاب، وكانوا عملات ورقية زائفة، أحدهم أصرّ على زواج شقيقتي ابتسام، وكانت جميلة خلقة وأخلاق، أنا كنت من الرافضين، لأن العريس كان سياسياً قضي نصف عمره خلف قضبان الأنظمة السياسية، ولكن الشافعة وافقت بحماس جعل الدم يغلي في عروقي، ووافقت الأسرة على الزيجة، ألقموني طوباً ووصفوني بالعانسة الخائبة، "فرّازة الرجال"، أشهد بأن الفتاة في رحلة الانتظار الطويل، تصاب بالملل والضجر، ما يدفعها لقبول خيارات جديدة بمواصفات فيها الكثير من التنازل، والانحناء في كثير من الحالات، وأنا  كنت واحدة منهن، يبدو أنني كنت أبحث عن وجه صلاح بين وجوه خطّابي الكثر، أبحث عن ذلك السطوع الذي كان يعتريه، حين أحسست به لأول مرة، ولكنه كان داكنا وبائساً، حين سقط من قلبي، ولمّا طال الانتظار، قبلت بالزواج من مدحت، زميلي في العمل، جذوره محسية، وقد بدا لي شخصاً عادياً، لا شيء فيه يثير الحفيظة، أو يهزّ الكيان، سوى أنه كان تقدمياً، اشتراكي النزعة، حقانياً بمعنى الكلمة، ولكنه بعد أن وثّق القسيمة وأخذني إلى بيته، عاد فارغاً من كل محتوى، ولا أصمد أمام التفصيل، لن أقدر... 
كتب التاريخ تتحدّث كثيراً عن المرأة فوق أرض بلادي، كانت تسوس وتتقلد المناصب، الكنداكات تسلّقن سلالم المجد عن جدارة، بكامل أنوثتهن، كما الطبيعة، والشمس والسلطة والثقافة، شُبّهت بالقمر وكانت ملكة، بلقيس، كليوباترا، الكنداكات، منهن من دوّخت الرومان وهزمتهم، فوق تلك الأرض، ومنهن من سار إليها ركبان الباحثين عن علوم الدين، فتحية النوبية بأسوان، إنهم يتشرفون بحمل أسماء أمهاتهم، ويحلفون بأسمائهنّ عند القسم، وفجأةً  ينحدر ذوقهم الأنثوي إلى مستوى المثل " المرا كان بقت فاس ما بتكسر رأس"!! إنها الهزيمة التاريخية للوعي بالأنثى صانعة التاريخ. قرأت في الإنترنت، قصة بعنوان "رحّال الهجين" فوبيا السفر وجدلية الخوف الجرأة ( قصة تحليلية للشخصية السودانية)، للكاتب السوداني، بابكر عثمان مكي، ورد فيها،(.... كم هي ضعيفة المرأة السودانية، لم يكن لها الحق في اختيار وجهها في ذلك الزمان الغابر، ربما لكي تفخر، لابد من جرح، حتى وهى صغيرة يجرحونها جرحاً "بليغا"، حتى تفتخر بعفتها عندما تكبر، عفة تكلفها "أحيانا" الموت حين تعسر الولادة، أو أن تشبه قطعة ثلج في فراش الزوجية، ومأساتها الحقيقية هي عندما تكبر.. يكون مصيرها معلقا" على عقارب الساعة تعانى الوحدة وتخاف الجرأة وتنتظر الوهم والسراب، فإما أن توضع في مصاف الأمهات إذا ضرب الحظ، أو المطلقات والعانسات إذا كانت غير محظوظة، وبين هذا وذاك نوع من القيود البلهاء في إدارة تصرفاتها من قبل الأب أو الأخ أو الزوج وتصبح تلك القيود مشنقة، إذا تجاوزت هي حد ذلك الجرح بالخطيئة ...)، الله ينصفك يا بابكر، والشكوى لله ولا لغيره.
لا يسألن أحد، ما علاقة هذا السرد بود البشير، الذي أنزل رحاله بإحدى الجمعيات النوبية في العاصمة الوطنية، ببلد الرسول، هل تذكرون قصة "عبّودي" في ملاحم الشاعر النوبي إبراهيم عبده، وهو من روّاد الشعر النوبي الرّاهن، يلتقي مع مندق الأزهري ومحمد مختار عبدون، والفاتح شرف الدين، في جدّهم الكبير، عشق الأرض ولثم التراب، رصد إبراهيم عبده شخصية "عبّودي" المسكين، المهاجر الذي سبح البحر الأحمر وصارع حيتانه وثعابينه، ثم عاد لأهله ببصلة، كذلك سبح ود البشير، بسماحة السوداني الأصيل، في نيل الجمعيات، واستظل بنخيلها وأشجارها الوارفة ردحاً من الزمان، واستأنس بقططها السمان، وتعلّم لغة عربية معوجة الخصر، تلك التي فرضها الوجود الشرق- آسيوي المكثّف.
بأول الأمر، استلم ودّ البشير عمله في مطعم يقدم الوجبات السودانية، وبعد أن رتّب أموره، جلس يتفحّص ورقة الطلبات، عاوده الحنين إلى ابنه صابر، تذكّر زوجته جعفرية، ترحّم عليها، خاطبها همساً: ً" ليتك كنت معنا الآن"، ثم هرول إلى مركز الاتصالات، وصبّ أخباره وأخبار الآخرين في أذن عبد العظيم صاحب محل الاتصالات في البلد، وطلب منه استحضار زوجته ست أبوها، ليسلّم عليها بحرارة،  ثم استمع إلى صوت ابنه صابر وبكى، لأول مرة في حياته، سمع صوته وهو يبكي داخل الكابينة، ساقته أقدامه المتعثرة إلى الجمعية، وشال هموم الغربة والوحشة بأجلّ معانيها.
أمس الأول، جاءنا خبر وفاة جارتنا شلبية الطهّارة، التي قامت بختان كل أندادي من الفتيات والصبيان في البلد، أنا أعتقد بأن هذه العادة القديمة لها علاقة بالطقوس العبادية لأديان قديمة، لم تجد العزيمة الحقيقية لاستئصالها في مجتمعاتنا، لأنها كعادة موروثة، تحتمي بحائط سميك من إفرازات السلوك الاجتماعي الخفي، تلعب فيه النساء دوراً بغيضاً، وباتت في حاجة ماسة لسن قانون صارم لاستئصالها لحماية بنات حواء من آثارها السالبة.
كان لود البشير أرضا زراعية، مساحتها خمسة أفدنة، بشاطئ الضفة الغربية لقريتنا، يزرع فيها بعض الخضر والبقوليات، ويقوم ببيعها في سوق الحي، كان ذلك قبل اغترابه إلى أرض الحرمين، وقد بذل ود البشير أقصى ما أوتي لتحقيق مطالب ابنه الوحيد صابر، كان قد استعد لبيع بعض نخيله لتوفير نفقات تعليمه، ولكنه اغتم كثيراً لرسوب ابنه، على مدى ثلاثة أعوام، في الدخول إلى الثانوية العليا، فاضطر لدفع رشوة معتبرة لمن يهمهم أمر تعيين ولده في وظيفة محصّل بإدارة المياه الريفية بالقرية،  وقد باشر صابر مهام وظيفته الجديدة بكل الصرامة والحدة، فلم يحبه أحد، لأنه – كما يزعم ناس البلد-  نصب نفسه مأموراً للضرائب، بوجهه المكفهر ومداهماته المحرجة للمفلسين من ضحاياه، ومساومات خسيسة، يستنكفها العوام من أهل القرية، لا تخلو من مقايضات لا أخلاقية. لم يجد صابر وقتاً كافياً لأعباء الزراعة فقام باستئجار الأرض لبعض الأغراب مقابل جزء من المحصول، وعاش وحيداً في منزل أبيه بعد زواج شقيقته تمايا وسفر والده ودّ البشير، أصبح البيت عاجاً برفقاء السوء من كل صنف، وفاحت سمعته السيئة في القرية. أنتم لا تدركون مأساة إنسان القرية حين تسوء سمعته، أجاركم الله، إن شرف الإنسان القروي لا ينفع صاحبه إذا خدش مرة واحدة، كالزجاج ، كماء الوضوء، والخداع في نظرهم كبيرة من الكبائر.

ود البشير الخضرجي جزء رابع



 أكثر أبواب منازلنا تشرئب صوب مشرق الشمس والضياء، وأهل قريتنا تطير أحلامهم شرقاً، إلى دول الخليج، وأغلبهم يتوهمون بأن أصولهم تسربت من هناك، وأن شموس الرزق لا تشرق إلاّ من تلك الجهات المحفوفة بالروحانيات العتيقة، تبارك الله، فقد بوركت هذه البقاع بدعوة إبراهيم عليه السلام. شهقت قريتنا في ذلك الصباح، وانفتحت أبواب السماء فوق دار ود البشير، انطلقت الزغاريد في الدروب المؤدية إلى الحوش الفقير، وهناك وقف ود البشير، منشرح الصدر، تفوح من منخريه الكبرياء، فالفيزة "أم سيفين ونخلة"، التي جاءت في معية شاهين ود العمدة، المغترب في أرض الحرمين، أعلنت عن أشياء كثيرة في آن واحد،  وبموجبها اكتسب ود البشير صفة مغترب عن جدارة، كما أدرك بعمق، سر البهجة الطاغية بوجه ابنته تمايا، حين دلف شاهين صحن دارهم، متأبطاً ذراع أبيه العمدة، بلحمه وشحمه، وقد اعتمر عباءته المزخرفة بخيوط الذهب، لا أعرف حتى الآن كيف نجح شاهين في نيل رضا أبيه العمدة، الذي كان رافضاً بحدة، خطبة صديقتي تمايا إلى ولده شاهين، يومها، جلس ود البشير كتفاً بكتف إلى جانب العمدة، وقرءوا الفاتحة، بعد أسبوعين، أقيمت الأفراح، وتمت الزيجة بأهازيجها وطقوسها النوبية الصميمة، ولم ينغص صفوها وفاة جدتي عائشة، رحمها الله، في ليلة الدُخلة، فقد ذهب أبي إلى بيت العرس وأذن لهم باستئناف طقوس الفرح.
بكل أحاسيسي، شاركت صديقتي تمايا في ليالي عرسها الشائقة، لم أفارق مخدعها الخاص إلاّ لماما، وفي تلك الليالي الحبلى بالوله والعشق المسروق، جاءت جارتنا شلوية عالمة الزار إلى بيتنا، وتمت خطبتي لابنها صلاح فضل الله بُقطر، وكان يتيم الأب، وتكنّى باسم أمّه "صلاح شلوية" ، شأن معظم أهل الشمال النوبي. ازدان منزلنا بأضواء العرس القادم، توشحت أمي بثوب جديد، أما شقيقاتي، آمنة وابتسام، فقد كن يطرن كالفراشات هنا وهناك، ويجذبن الأنظار بفوح أنوثة مبكرة، وملأن الدار رقصاً وانتشاءً.
الناس في ذلك الشريط النيلي الضيّق، يتقاسمون السراء والضراء بالفطرة، إنهم كالنيل لا يتكررون، يعيشون لحظات اللقاء كأنها آخر اللحظات في حياتهم، أما عهود الفراق فهي قدرهم المحتوم، أفواجهم صنو أمواج النيل لا تستقر، تأتي لتذهب، ولكنهم يعودون كأسماك السلمون المهاجرة إلى موطنها الأصلي مهما تعثّرت بها الدروب، ويشتهون الموت عند الضفاف التي احتضنت مراكض صباهم، حرصاً على توسّد التراب المجاور لقباب أوليائهم الصالحين، والله يشهد أنني لا أريد أن أدفن هنا في مقابر "العود"، أشتهي أن أُدفن في مقابر" هجّ هليل" إلى جوار أجدادي. لا زالت طقوس وداع المسافرين في قريتنا، باقية بتفاصيلها المثيرة، فإنّ تشييع المسافر واجب ودين، وليس فرض كفاية، ففي الليلة السابقة ليوم السفر، تكتظ دور المسافرين بحملة الرسائل والطرود بأنواعها، والمعنونة بخطوط رديئة إلى ذويهم من المهاجرين والمغتربين. وأسوأ أنواع الوداع لفئة المهاجرين، لأن عودتهم غير مأمولة، ولكن المغترب يغريهم بالعودة ولو بعد حينٍ، قد متد إلى عشرات السنين،  وفي تلك الليالي يذرفون الدموع ويتبادلون الأمنيات العذبة، وعلى شرف المسافر يتصالح المتخاصمون، ويتسامح الغرماء بأريحية. لا بد أن أوع هنا، فوح تلك اللحظات القاسية، حين التقيت خطيبي صلاح ليلة الوداع، وواجهته بطلب فسخ الخطوبة، شعرت ليلتها بأن قراري لم يكن مفاجئاً له، كما شعرت بنوعٍ فالتٍ من الإجهاض المعنوي، ليلتها كنت أودّع مرغمة أشياء كثيرة، صديقتي الحميمة تمايا، وخطيبي صلاح وكل الذكريات الجميلة والصدئة، وسنوات طويلة من الانتماء الأسيف لأحلامي الهلامية، وجاء يوم السفر.  
 يومها احتشدت القرية أمام البص صغاراً وكباراً، بطول الطريق المتعرّج الذي يشق قريتنا، أرتال من النسوة والصبايا تحلّقن بالعروس وأشبعنها دموعاً، واصطف الرجال والصبية فوق مسطبة العمدة لتوديع ود البشير وشاهين العريس، كانت وجوههم ساحة لألوان متعدّدة من الأحاسيس، تمرح فيها غبطة الفرج القادم وقسوة الفراق المجهول الأمد، ورويداً رويداً زحف البص نحو الجنوب، والناس في اختلاجاتهم، لم يبرحوا أماكنهم حتى تضاءل شبح البص المنطلق إلى الخرطوم، والأيدي المشرعة من بين نوافذه تبعث الدفء واللوعة، وأعين المصطفين على امتداد الطريق الميري الطويل، تحتكرها لواعج الفراق.

 وقفت المضيفة بطائرة الخطوط الجوية السودانية، تنثر نصائحها وابتسامتها على المسافرين، وقد غرست ناظريها في وجه تمايا الجميل كإطلالة القمر، وإلى جانبها شاهين بكفيه المخضبتين، وفي الجوار، بدا ود البشير في مقعده كالمنساق إلى حبل المشنقة، صامتاً كتمثال الشمع، تتلاعب أصابعه الحائرة بحبات سبحة سوداء، دسّتها أمي في جيوبه ساعة الوداع، كان يتمتم بدعاء السفر حين أخذت الطائرة طريقها في المدرج الفسيح، تماسك بصعوبة والطائرة تعانق به الجو لأول مرة في حياته.

أنا وصلاح، لم يودّع أحدنا الآخر يوم سفره إلى موقع وظيفته، سافر على متن البص السياحي الجديد، وساعة كشحَ البص غبار الطريق فوق وجوه المودّعين، كنت قد نفضت يدي من خطيبي صلاح مع ذلك الغبار المسافر إلى العاصمة، ولكنّي فشلت في نسيانه، شقيقتي الوسطى آمنة كانت تغيظني بترديد:  نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى... ما الحب إلاّ للحبيب الأول، وكنت أدافع عن موقفي، بتبخيس خلود الحب، وتسفيه الماضي الفاشل، وكفتاة عصرية جامعية تعيش في وسط قروي بسيط – هذا ليس غروراً- خضت جملة من التجارب العاطفية الضحلة، من وراء الأهل – كالعادة – ولم أجن منها سوي لحظات هاربة بلا عنوان.
الهجرة إلى المدينة مطمح خبيث، يمتلك حقولاً شاسعة من المبررات المغرية، يقول بعض الحكماء أن الهروب من القرى إلى أطراف المدن، وإن بدا بريئاً في مقاصده، يدق مسامير عدّة في نعوش القرى النائية، وتغتال أصوات سواقيها وتقطع الطريق بينها وبين النّمو والارتقاء. بعد شهور قليلة، شعرت بفراغ داخلي مرعب، وما عادت الضفاف الدافئة، تقدح زناد أحلامي النائمة، لقد فقدت في لحظاتٍ قليلة، عبق الصداقة ورعشة الحب اللذين ولّيا خلف سراب البص المغادر.. ولكم أسمعت أزهار اللوبياء في الجروف الصادحة بالندى، دقات قلبي الواجفة وسقيتها ماء العيون، لم تعد أسراب الأوز والبطّ المهاجر تخشى روحاتي وغدواتي فوق جزيرات النيل الرملية وذهب الآصال المرحة. وجاءني المخاض اللعين في هفوة العمر الشقي..
نعم، ارتكبت خطأ العمر، قمت بتحريض أبي وأمي وشقيقاتي للهجرة إلى العاصمة، وزيّنت لهم الهروب إلى مدن الضجيج، خدعتهم بوهج الوظيفة ورحابة العيش، سفّهت في أعماقهم عبق الحقول النضرة وإغفاءات شموس الأصيل، فرشت في دروبهم رياحين الأمل الجديد، في فضاءات لا تشتكي لياليها من الظلمة والوحشة، ولا يشتكي أهلها من انعدام الأدوية المنقذة للحياة، بلاد لا يهرع عسكرها لمنع الغناء ليلاً، خوف الفتنة، أقنعتهم بالهجرة إلى العاصمة، لأن  مبانيها تعانق السماء وأرضها مسفلتة، إنّها المدنية الزائفة التي تنام بين فخذي النيل، تتوسطها مطارات الصعود إلى الثراء المريح، وحفلات القاعة وحدائق الثورة المنسية، وعينك عينك تشوف وردي يغني أمامك: يا شعباً لهبك ثوريتك...تلقى مرادك والفي نيتك...

الثلاثاء، 17 يوليو 2012

ود البشير الخضرجي جزء رابع



في دغش كل صباح، كنا نصحو إلى زرائب البهائم، المشيدة خلف الدور، أنا وصديقتي تمايا الحلبية، لجلب اللبن وإعداد شاي الصباح، فكبر معنا ذلك العشق الخرافي لمشهد الإصباح وانطلاق النور، والكره المشترك لست أبوها زوجة ود البشير الجديدة، كنت أبكي معها وهي تحكي عن قسوة ست أبوها، واحتكارها لكل شيء، كان مصيرها الضرب المبرّح لأقل هفوة، مرئية أو منقولة، وكنّا نتدثر بحكاياتنا الخاصة في جلساتنا السّرية، ونتمنّى الموت لست أبوها، ولكن الله استجاب لدعواتنا الشريرة، وحرمها من الخَلَف، وأرجو أن يسامحنا الله من تلك الهفوات البريئة.  
مرّت الأعوام وكبرت أحلامنا وتقاطعت أمانينا الصغيرة، تعلّق قلب تمايا بشاهين ود العمدة من وقت مبكر، رمت تمايا الشيطانة شباكها حول الصيد السمين، الشاب الأسمر صاحب الأملاك والحقول الواسعة، ومال قلبي المتعب إلى صلاح ابن شلوية عالمة الزار. كان أبيض اللون، رقيق البنية، حلو التقاطيع، وقد جمعت بينه وبين شاهين ود العمدة صداقة متينة، تمايا الحلبية الفارعة كعود البان، اختارت شاهين القصير المتين البنيان، وأنا برغم قصر طولي وهزال جسمي، راق لي صلاح بقامته العالية، وعشنا أجمل لحظات العمر في تلك الحقبة، وكان النجاح حليفنا جميعاً حتى ولجنا أبواب الجامعات، باستثناء صابر، الذي وقف حماره عند منعطف الثانوية العامة، فاكتفى بوظيفة محصّل بإدارة المياه الريفية بالقرية، وخيري كاشف رفيقنا وجارنا الهادئ الرزين، الذي أظهر ميلاً واضحاً للتجارة منذ صغره، ولم يصمد أمام تحديات الولوج إلى الجامعة، اكتفي بسنتين بالثانوية العليا، وطار مع الآخرين إلى عالم الاغتراب، ولا زال في عالم المقايضات الصغيرة، تهفو نفسه للزواج من فتاة نوبية اختار أهلها الحياة في أم درمان.  
حين أعرب شاهين عن رغبته في الزواج من صديقتي تمايا، هاجت رياح بيت العمدة وثارت عائلته، وصفوا صديقتي تمايا بالحلبية، وهددوا ابنهم بالمقاطعة والنبذ والحرمان من الميراث الكبير، فانهار شاهين أمام صفعات التهديد الوشيكة، لم يصمد كثيراً فصام عن الكلام، وانقطع حبل الوصال بينه وبين فتاته تمايا. ولكنه لم ينتظر طويلاً بالبلاد، جاءت أوراقه المختومة من أرض الحرمين، تستحثه على السفر بعيداً عن تمايا الحلبية، ولا بد أن العمدة قد خطّط بذكاء لإبعاد ولده عن تلك الزيجة، وشهدت صالة مطار الخرطوم فصول الوداع  المثيرة بين العاشقين.
خرج خطيبي صلاح إلى العاصمة، في مشوار البحث عن الوظيفة، فيما انزلقت أنا في تفاصيل الحياة القروية، أخذتني روعة ملاعب الصبا من جديد، أحسست بفراغ كبير بعد سفره... صديقتي تمايا، كانت تردّد في إحدى ندوات النشاط الطلاّبي :" هذا الوطن الكبير، بخلافاته وتبايناته، بأفراحه وأحزانه، لا بد من استصحاب أوطان أخرى لتجميله ورفع شأنه على بساط من الحب المتعافي من الغرض، إن لكل واحد منا عدة أوطان يرتادها في حياته، وطن للعشق، وطن للكراهية، ووطن للتسامح، ويجمعها في دم الإنسان وطن آخر، اسمه الإنسانية". هل فهمتم شيئاً؟، أنا استوعبت ذلك.
عقب عودتي إلى القرية، زاد وزني وتكوّرت أطرافي، داعبتني شقيقتي الصغرى، قالت : عرسكم متين؟، رددت عليها: لمّان صلاح يكوّن نفسه، وسرحت بعيداً في أجواء رحلتي الدراسية، من الابتدائية والمشوار الطويل للجامعة، شمس محطّة أبو حمامة، زحمة صباحية في أسفلت الشجرة، أنشطة الرابطة، المظاهرات والبمبان، حفلات التخريج، أحببت عودتي إلى القرية برغم الفراغ والناموس والظلام الدامس والأحلام الموءودة، كفتاة متعلّمة، راسها قوي، وراغبة في العمل الوظيفي، كانت خياراتي لا تتجاوز وظيفة في المكاتب الحكومية في المجلس الريفي، مهنة التدريس، أو سلك التمريض، ولم يكن يسمح للفتاة بالعمل بعيداً عن منطقتها إلاّ اضطراراً.  
ظل خطيبي صلاح يفزعني برأيه السالب في انشغال الزوجة بالوظيفة، إلا عند الضرورة القصوى، وقد واجهته مرات عديدة برغبتي في التوظّف، خشيت أن لا ترقى وضعية الفقر المقيم في بيتنا، إلى تلك الضرورة القصوى، فأخذ معه شهادتي الجامعية، على مضض، وسافر إلى العاصمة في مشوار البحث عن وظيفة لكلينا، كان خياري الأول والأخير مهنة التدريس العالي، وكما توقّعت، ذهبت أحلامي في الوظيفة أدراج الرياح، خدعني خطيبي، لم يقدم أوراقي إلى أية جهة، وعاد إلى القرية موظفاً في وزارة الري بولاية الجزيرة، وطلب مني التفرغ لبيته المستقبلي، وصرف النظر عن الوظيفة، وأدركت مبكراً أن خطيبي لم يفكر يوماً إلاّ في نفسه، وهكذا خرج صلاح من حياتي إلى الأبد، ولن يسخر مني أحد، إذا اعترفت بأنه لا زال يحتل ركناً مضيئا بين جنبي، كلّما فكرت في سنوات الصبا وألق الحب الأول، ولا زلت استهجن تلك الفكرة العامة التي يتبناها القرويون بزعمهم أن الحب يموت عند افتراق العاشقين، أنا أزعم بأن الحب يظل حياً في كل الأحوال، ولا يزيده مرور الوقت إلاّ اشتعالاً، ولا أعتبر الكراهية معبرة عن حالة اللاحب، بل أفسرها كحالة من حالات التحسر على عدم قدرتنا على الحب، فالحب هو أساس الحياة، بينما الكراهية حالة عارضة، تتمدد بعكس حركة الحياة، وبالتالي الكراهية هي التي تموت عندما ينهض الحب بثرائه العريض، لا زلت اشكر لخطيبي صلاح أنه أتاح لي فرصة إجراء بحث عن الزار، فقد توصلنا معاً إلى تأكيد ارتباط طقوس الزار تاريخيا، بالعبادات القديمة، ذات العلاقة بقدرة عالم الجن والشياطين، على التدخل في حياة البشر، والتأثير في سلوكهم سلباً، وأحيانا إيجاباً، حيث تقوم عالمة الزار بلعب دور الوسيط بين المريضة بالمس ومردة الشياطين، لخلق جو من المرونة لاسترضاء الشياطين وتسريحها خارج تلك الأجسام العليلة.
هاجر شاهين ليبني نفسه، أو كما قال، ليمتلك قراره، ويتزوّج بمن اختارها قلبه، أهل قريتنا يتباهون بأنهم متحضّرون، يزعمون أنهم يتركون الخيار لفتياتهم وفتيانهم للزواج وفق أمزجتهم، ولكنهم على نحو ما يحشرون أنوفهم في كل شيء، يتدخّلون حتى في أشكال الطقوس الموروثة. عادت تمايا إلى القرية منكسة الرايات، وعاد بنا قطار الشوق إلى قريتنا النائمة بخصر النيل المسافر إلى الشمال، فرحت بنا الطرقات والحواري المغطاة بشراشف النخل، والجزر الصغيرة التي امتلأت بقرقرات طيورها المهاجرة، عدنا إلى القرية للتزود ببعض الدفء، قبل الرحيل  إلى المهاجر البعيدة، ذلك الطريق المحفوف بمخاطر اللاعودة، المرسوم كالقدر فوق جباه الأجيال، الهجرة إلى أنحاء السودان المختلفة، في حبل الوظيفة، لأصحاب القدرة والحظ الإلهي، أو الاغتراب إلى أية جهة، بعيداً عن الوطن الفقير، بشروط مهينة في أغلبها، إلا من رحم الله، تفسر مقولة القائد المسلم طارق بن زياد، " البحر من ورائكم والعدو أمامكم"، حالة غريبة!! أن يلفظنا بحر بلادنا العامر باللآلئ إلى بلاد طيرها أعجمي، وأن تقتلنا الكلمات " نحن ونحن الشرف الباذخ، دابي الكر شباب النيل".... ما أروعها من شكرة موروثة، تعيش في متاهة طفلة منسية، هجرها أهلها عن قصد.

ود البشير ج ثالث

        في دغش كل صباح، ك ست أبوها، واحتكارها لكل شيء، كان مصيرها الضرب المبرّح لأقل هفوة، مرئية أو منقولة، وكنّا نتدثر بحكاياتنا الخاصة في جلساتنا السّرية، ونتمنّى الموت لست أبوها، ولكن الله استجاب لدعواتنا الشريرة، وحرمها من الخَلَف، وأرجو أن يسامحنا الله من تلك الهفوات البريئة.  
مرّت الأعوام وكبرت أ
نا نصحو إلى زرائب البهائم، المشيدة خلف الدور، أنا وصديقتي تمايا الحلبية، لجلب اللبن وإعداد شاي الصباح، فكبر معنا ذلك العشق الخرافي لمشهد الإصباح وانطلاق النور، والكره المشترك لست أبوها زوجة ود البشير الجديدة، كنت أبكي معها وهي تحكي عن قسوةحلامنا وتقاطعت أمانينا الصغيرة، تعلّق قلب تمايا بشاهين ود العمدة من وقت مبكر، رمت تمايا الشيطانة شباكها حول الصيد السمين، الشاب الأسمر صاحب الأملاك والحقول الواسعة، ومال قلبي المتعب إلى صلاح ابن شلوية عالمة الزار. كان أبيض اللون، رقيق البنية، حلو التقاطيع، وقد جمعت بينه وبين شاهين ود العمدة صداقة متينة، تمايا الحلبية الفارعة كعود البان، اختارت شاهين القصير المتين البنيان، وأنا برغم قصر طولي وهزال جسمي، راق لي صلاح بقامته العالية، وعشنا أجمل لحظات العمر في تلك الحقبة، وكان النجاح حليفنا جميعاً حتى ولجنا أبواب الجامعات، باستثناء صابر، الذي وقف حماره عند منعطف الثانوية العامة، فاكتفى بوظيفة محصّل بإدارة المياه الريفية بالقرية، وخيري كاشف رفيقنا وجارنا الهادئ الرزين، الذي أظهر ميلاً واضحاً للتجارة منذ صغره، ولم يصمد أمام تحديات الولوج إلى الجامعة، اكتفي بسنتين بالثانوية العليا، وطار مع الآخرين إلى عالم الاغتراب، ولا زال في عالم المقايضات الصغيرة، تهفو نفسه للزواج من فتاة نوبية اختار أهلها الحياة في أم درمان.  
حين أعرب شاهين عن رغبته في الزواج من صديقتي تمايا، هاجت رياح بيت العمدة وثارت عائلته، وصفوا صديقتي تمايا بالحلبية، وهددوا ابنهم بالمقاطعة والنبذ والحرمان من الميراث الكبير، فانهار شاهين أمام صفعات التهديد الوشيكة، لم يصمد كثيراً فصام عن الكلام، وانقطع حبل الوصال بينه وبين فتاته تمايا. ولكنه لم ينتظر طويلاً بالبلاد، جاءت أوراقه المختومة من أرض الحرمين، تستحثه على السفر بعيداً عن تمايا الحلبية، ولا بد أن العمدة قد خطّط بذكاء لإبعاد ولده عن تلك الزيجة، وشهدت صالة مطار الخرطوم فصول الوداع  المثيرة بين العاشقين.
خرج خطيبي صلاح إلى العاصمة، في مشوار البحث عن الوظيفة، فيما انزلقت أنا في تفاصيل الحياة القروية، أخذتني روعة ملاعب الصبا من جديد، أحسست بفراغ كبير بعد سفره... صديقتي تمايا، كانت تردّد في إحدى ندوات النشاط الطلاّبي :" هذا الوطن الكبير، بخلافاته وتبايناته، بأفراحه وأحزانه، لا بد من استصحاب أوطان أخرى لتجميله ورفع شأنه على بساط من الحب المتعافي من الغرض، إن لكل واحد منا عدة أوطان يرتادها في حياته، وطن للعشق، وطن للكراهية، ووطن للتسامح، ويجمعها في دم الإنسان وطن آخر، اسمه الإنسانية". هل فهمتم شيئاً؟، أنا استوعبت ذلك.
عقب عودتي إلى القرية، زاد وزني وتكوّرت أطرافي، داعبتني شقيقتي الصغرى، قالت : عرسكم متين؟، رددت عليها: لمّان صلاح يكوّن نفسه، وسرحت بعيداً في أجواء رحلتي الدراسية، من الابتدائية والمشوار الطويل للجامعة، شمس محطّة أبو حمامة، زحمة صباحية في أسفلت الشجرة، أنشطة الرابطة، المظاهرات والبمبان، حفلات التخريج، أحببت عودتي إلى القرية برغم الفراغ والناموس والظلام الدامس والأحلام الموءودة، كفتاة متعلّمة، راسها قوي، وراغبة في العمل الوظيفي، كانت خياراتي لا تتجاوز وظيفة في المكاتب الحكومية في المجلس الريفي، مهنة التدريس، أو سلك التمريض، ولم يكن يسمح للفتاة بالعمل بعيداً عن منطقتها إلاّ اضطراراً.  
ظل خطيبي صلاح يفزعني برأيه السالب في انشغال الزوجة بالوظيفة، إلا عند الضرورة القصوى، وقد واجهته مرات عديدة برغبتي في التوظّف، خشيت أن لا ترقى وضعية الفقر المقيم في بيتنا، إلى تلك الضرورة القصوى، فأخذ معه شهادتي الجامعية، على مضض، وسافر إلى العاصمة في مشوار البحث عن وظيفة لكلينا، كان خياري الأول والأخير مهنة التدريس العالي، وكما توقّعت، ذهبت أحلامي في الوظيفة أدراج الرياح، خدعني خطيبي، لم يقدم أوراقي إلى أية جهة، وعاد إلى القرية موظفاً في وزارة الري بولاية الجزيرة، وطلب مني التفرغ لبيته المستقبلي، وصرف النظر عن الوظيفة، وأدركت مبكراً أن خطيبي لم يفكر يوماً إلاّ في نفسه، وهكذا خرج صلاح من حياتي إلى الأبد، ولن يسخر مني أحد، إذا اعترفت بأنه لا زال يحتل ركناً مضيئا بين جنبي، كلّما فكرت في سنوات الصبا وألق الحب الأول، ولا زلت استهجن تلك الفكرة العامة التي يتبناها القرويون بزعمهم أن الحب يموت عند افتراق العاشقين، أنا أزعم بأن الحب يظل حياً في كل الأحوال، ولا يزيده مرور الوقت إلاّ اشتعالاً، ولا أعتبر الكراهية معبرة عن حالة اللاحب، بل أفسرها كحالة من حالات التحسر على عدم قدرتنا على الحب، فالحب هو أساس الحياة، بينما الكراهية حالة عارضة، تتمدد بعكس حركة الحياة، وبالتالي الكراهية هي التي تموت عندما ينهض الحب بثرائه العريض، لا زلت اشكر لخطيبي صلاح أنه أتاح لي فرصة إجراء بحث عن الزار، فقد توصلنا معاً إلى تأكيد ارتباط طقوس الزار تاريخيا، بالعبادات القديمة، ذات العلاقة بقدرة عالم الجن والشياطين، على التدخل في حياة البشر، والتأثير في سلوكهم سلباً، وأحيانا إيجاباً، حيث تقوم عالمة الزار بلعب دور الوسيط بين المريضة بالمس ومردة الشياطين، لخلق جو من المرونة لاسترضاء الشياطين وتسريحها خارج تلك الأجسام العليلة.
هاجر شاهين ليبني نفسه، أو كما قال، ليمتلك قراره، ويتزوّج بمن اختارها قلبه، أهل قريتنا يتباهون بأنهم متحضّرون، يزعمون أنهم يتركون الخيار لفتياتهم وفتيانهم للزواج وفق أمزجتهم، ولكنهم على نحو ما يحشرون أنوفهم في كل شيء، يتدخّلون حتى في أشكال الطقوس الموروثة. عادت تمايا إلى القرية منكسة الرايات، وعاد بنا قطار الشوق إلى قريتنا النائمة بخصر النيل المسافر إلى الشمال، فرحت بنا الطرقات والحواري المغطاة بشراشف النخل، والجزر الصغيرة التي امتلأت بقرقرات طيورها المهاجرة، عدنا إلى القرية للتزود ببعض الدفء، قبل الرحيل  إلى المهاجر البعيدة، ذلك الطريق المحفوف بمخاطر اللاعودة، المرسوم كالقدر فوق جباه الأجيال، الهجرة إلى أنحاء السودان المختلفة، في حبل الوظيفة، لأصحاب القدرة والحظ الإلهي، أو الاغتراب إلى أية جهة، بعيداً عن الوطن الفقير، بشروط مهينة في أغلبها، إلا من رحم الله، تفسر مقولة القائد المسلم طارق بن زياد، " البحر من ورائكم والعدو أمامكم"، حالة غريبة!! أن يلفظنا بحر بلادنا العامر باللآلئ إلى بلاد طيرها أعجمي، وأن تقتلنا الكلمات " نحن ونحن الشرف الباذخ، دابي الكر شباب النيل".... ما أروعها من شكرة موروثة، تعيش في متاهة طفلة منسية، هجرها أهلها عن قصد.