أكثر أبواب منازلنا تشرئب صوب مشرق الشمس والضياء، وأهل قريتنا تطير أحلامهم شرقاً، إلى دول الخليج، وأغلبهم يتوهمون بأن أصولهم تسربت من هناك، وأن شموس الرزق لا تشرق إلاّ من تلك الجهات المحفوفة بالروحانيات العتيقة، تبارك الله، فقد بوركت هذه البقاع بدعوة إبراهيم عليه السلام. شهقت قريتنا في ذلك الصباح، وانفتحت أبواب السماء فوق دار ود البشير، انطلقت الزغاريد في الدروب المؤدية إلى الحوش الفقير، وهناك وقف ود البشير، منشرح الصدر، تفوح من منخريه الكبرياء، فالفيزة "أم سيفين ونخلة"، التي جاءت في معية شاهين ود العمدة، المغترب في أرض الحرمين، أعلنت عن أشياء كثيرة في آن واحد، وبموجبها اكتسب ود البشير صفة مغترب عن جدارة، كما أدرك بعمق، سر البهجة الطاغية بوجه ابنته تمايا، حين دلف شاهين صحن دارهم، متأبطاً ذراع أبيه العمدة، بلحمه وشحمه، وقد اعتمر عباءته المزخرفة بخيوط الذهب، لا أعرف حتى الآن كيف نجح شاهين في نيل رضا أبيه العمدة، الذي كان رافضاً بحدة، خطبة صديقتي تمايا إلى ولده شاهين، يومها، جلس ود البشير كتفاً بكتف إلى جانب العمدة، وقرءوا الفاتحة، بعد أسبوعين، أقيمت الأفراح، وتمت الزيجة بأهازيجها وطقوسها النوبية الصميمة، ولم ينغص صفوها وفاة جدتي عائشة، رحمها الله، في ليلة الدُخلة، فقد ذهب أبي إلى بيت العرس وأذن لهم باستئناف طقوس الفرح.
بكل أحاسيسي، شاركت صديقتي تمايا في ليالي عرسها الشائقة، لم أفارق مخدعها الخاص إلاّ لماما، وفي تلك الليالي الحبلى بالوله والعشق المسروق، جاءت جارتنا شلوية عالمة الزار إلى بيتنا، وتمت خطبتي لابنها صلاح فضل الله بُقطر، وكان يتيم الأب، وتكنّى باسم أمّه "صلاح شلوية" ، شأن معظم أهل الشمال النوبي. ازدان منزلنا بأضواء العرس القادم، توشحت أمي بثوب جديد، أما شقيقاتي، آمنة وابتسام، فقد كن يطرن كالفراشات هنا وهناك، ويجذبن الأنظار بفوح أنوثة مبكرة، وملأن الدار رقصاً وانتشاءً.
الناس في ذلك الشريط النيلي الضيّق، يتقاسمون السراء والضراء بالفطرة، إنهم كالنيل لا يتكررون، يعيشون لحظات اللقاء كأنها آخر اللحظات في حياتهم، أما عهود الفراق فهي قدرهم المحتوم، أفواجهم صنو أمواج النيل لا تستقر، تأتي لتذهب، ولكنهم يعودون كأسماك السلمون المهاجرة إلى موطنها الأصلي مهما تعثّرت بها الدروب، ويشتهون الموت عند الضفاف التي احتضنت مراكض صباهم، حرصاً على توسّد التراب المجاور لقباب أوليائهم الصالحين، والله يشهد أنني لا أريد أن أدفن هنا في مقابر "العود"، أشتهي أن أُدفن في مقابر" هجّ هليل" إلى جوار أجدادي. لا زالت طقوس وداع المسافرين في قريتنا، باقية بتفاصيلها المثيرة، فإنّ تشييع المسافر واجب ودين، وليس فرض كفاية، ففي الليلة السابقة ليوم السفر، تكتظ دور المسافرين بحملة الرسائل والطرود بأنواعها، والمعنونة بخطوط رديئة إلى ذويهم من المهاجرين والمغتربين. وأسوأ أنواع الوداع لفئة المهاجرين، لأن عودتهم غير مأمولة، ولكن المغترب يغريهم بالعودة ولو بعد حينٍ، قد متد إلى عشرات السنين، وفي تلك الليالي يذرفون الدموع ويتبادلون الأمنيات العذبة، وعلى شرف المسافر يتصالح المتخاصمون، ويتسامح الغرماء بأريحية. لا بد أن أوع هنا، فوح تلك اللحظات القاسية، حين التقيت خطيبي صلاح ليلة الوداع، وواجهته بطلب فسخ الخطوبة، شعرت ليلتها بأن قراري لم يكن مفاجئاً له، كما شعرت بنوعٍ فالتٍ من الإجهاض المعنوي، ليلتها كنت أودّع مرغمة أشياء كثيرة، صديقتي الحميمة تمايا، وخطيبي صلاح وكل الذكريات الجميلة والصدئة، وسنوات طويلة من الانتماء الأسيف لأحلامي الهلامية، وجاء يوم السفر.
يومها احتشدت القرية أمام البص صغاراً وكباراً، بطول الطريق المتعرّج الذي يشق قريتنا، أرتال من النسوة والصبايا تحلّقن بالعروس وأشبعنها دموعاً، واصطف الرجال والصبية فوق مسطبة العمدة لتوديع ود البشير وشاهين العريس، كانت وجوههم ساحة لألوان متعدّدة من الأحاسيس، تمرح فيها غبطة الفرج القادم وقسوة الفراق المجهول الأمد، ورويداً رويداً زحف البص نحو الجنوب، والناس في اختلاجاتهم، لم يبرحوا أماكنهم حتى تضاءل شبح البص المنطلق إلى الخرطوم، والأيدي المشرعة من بين نوافذه تبعث الدفء واللوعة، وأعين المصطفين على امتداد الطريق الميري الطويل، تحتكرها لواعج الفراق.
وقفت المضيفة بطائرة الخطوط الجوية السودانية، تنثر نصائحها وابتسامتها على المسافرين، وقد غرست ناظريها في وجه تمايا الجميل كإطلالة القمر، وإلى جانبها شاهين بكفيه المخضبتين، وفي الجوار، بدا ود البشير في مقعده كالمنساق إلى حبل المشنقة، صامتاً كتمثال الشمع، تتلاعب أصابعه الحائرة بحبات سبحة سوداء، دسّتها أمي في جيوبه ساعة الوداع، كان يتمتم بدعاء السفر حين أخذت الطائرة طريقها في المدرج الفسيح، تماسك بصعوبة والطائرة تعانق به الجو لأول مرة في حياته.
أنا وصلاح، لم يودّع أحدنا الآخر يوم سفره إلى موقع وظيفته، سافر على متن البص السياحي الجديد، وساعة كشحَ البص غبار الطريق فوق وجوه المودّعين، كنت قد نفضت يدي من خطيبي صلاح مع ذلك الغبار المسافر إلى العاصمة، ولكنّي فشلت في نسيانه، شقيقتي الوسطى آمنة كانت تغيظني بترديد: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى... ما الحب إلاّ للحبيب الأول، وكنت أدافع عن موقفي، بتبخيس خلود الحب، وتسفيه الماضي الفاشل، وكفتاة عصرية جامعية تعيش في وسط قروي بسيط – هذا ليس غروراً- خضت جملة من التجارب العاطفية الضحلة، من وراء الأهل – كالعادة – ولم أجن منها سوي لحظات هاربة بلا عنوان.
الهجرة إلى المدينة مطمح خبيث، يمتلك حقولاً شاسعة من المبررات المغرية، يقول بعض الحكماء أن الهروب من القرى إلى أطراف المدن، وإن بدا بريئاً في مقاصده، يدق مسامير عدّة في نعوش القرى النائية، وتغتال أصوات سواقيها وتقطع الطريق بينها وبين النّمو والارتقاء. بعد شهور قليلة، شعرت بفراغ داخلي مرعب، وما عادت الضفاف الدافئة، تقدح زناد أحلامي النائمة، لقد فقدت في لحظاتٍ قليلة، عبق الصداقة ورعشة الحب اللذين ولّيا خلف سراب البص المغادر.. ولكم أسمعت أزهار اللوبياء في الجروف الصادحة بالندى، دقات قلبي الواجفة وسقيتها ماء العيون، لم تعد أسراب الأوز والبطّ المهاجر تخشى روحاتي وغدواتي فوق جزيرات النيل الرملية وذهب الآصال المرحة. وجاءني المخاض اللعين في هفوة العمر الشقي..
نعم، ارتكبت خطأ العمر، قمت بتحريض أبي وأمي وشقيقاتي للهجرة إلى العاصمة، وزيّنت لهم الهروب إلى مدن الضجيج، خدعتهم بوهج الوظيفة ورحابة العيش، سفّهت في أعماقهم عبق الحقول النضرة وإغفاءات شموس الأصيل، فرشت في دروبهم رياحين الأمل الجديد، في فضاءات لا تشتكي لياليها من الظلمة والوحشة، ولا يشتكي أهلها من انعدام الأدوية المنقذة للحياة، بلاد لا يهرع عسكرها لمنع الغناء ليلاً، خوف الفتنة، أقنعتهم بالهجرة إلى العاصمة، لأن مبانيها تعانق السماء وأرضها مسفلتة، إنّها المدنية الزائفة التي تنام بين فخذي النيل، تتوسطها مطارات الصعود إلى الثراء المريح، وحفلات القاعة وحدائق الثورة المنسية، وعينك عينك تشوف وردي يغني أمامك: يا شعباً لهبك ثوريتك...تلقى مرادك والفي نيتك...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق