المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 17 يوليو 2012

ود البشير الخضرجي جزء رابع



في دغش كل صباح، كنا نصحو إلى زرائب البهائم، المشيدة خلف الدور، أنا وصديقتي تمايا الحلبية، لجلب اللبن وإعداد شاي الصباح، فكبر معنا ذلك العشق الخرافي لمشهد الإصباح وانطلاق النور، والكره المشترك لست أبوها زوجة ود البشير الجديدة، كنت أبكي معها وهي تحكي عن قسوة ست أبوها، واحتكارها لكل شيء، كان مصيرها الضرب المبرّح لأقل هفوة، مرئية أو منقولة، وكنّا نتدثر بحكاياتنا الخاصة في جلساتنا السّرية، ونتمنّى الموت لست أبوها، ولكن الله استجاب لدعواتنا الشريرة، وحرمها من الخَلَف، وأرجو أن يسامحنا الله من تلك الهفوات البريئة.  
مرّت الأعوام وكبرت أحلامنا وتقاطعت أمانينا الصغيرة، تعلّق قلب تمايا بشاهين ود العمدة من وقت مبكر، رمت تمايا الشيطانة شباكها حول الصيد السمين، الشاب الأسمر صاحب الأملاك والحقول الواسعة، ومال قلبي المتعب إلى صلاح ابن شلوية عالمة الزار. كان أبيض اللون، رقيق البنية، حلو التقاطيع، وقد جمعت بينه وبين شاهين ود العمدة صداقة متينة، تمايا الحلبية الفارعة كعود البان، اختارت شاهين القصير المتين البنيان، وأنا برغم قصر طولي وهزال جسمي، راق لي صلاح بقامته العالية، وعشنا أجمل لحظات العمر في تلك الحقبة، وكان النجاح حليفنا جميعاً حتى ولجنا أبواب الجامعات، باستثناء صابر، الذي وقف حماره عند منعطف الثانوية العامة، فاكتفى بوظيفة محصّل بإدارة المياه الريفية بالقرية، وخيري كاشف رفيقنا وجارنا الهادئ الرزين، الذي أظهر ميلاً واضحاً للتجارة منذ صغره، ولم يصمد أمام تحديات الولوج إلى الجامعة، اكتفي بسنتين بالثانوية العليا، وطار مع الآخرين إلى عالم الاغتراب، ولا زال في عالم المقايضات الصغيرة، تهفو نفسه للزواج من فتاة نوبية اختار أهلها الحياة في أم درمان.  
حين أعرب شاهين عن رغبته في الزواج من صديقتي تمايا، هاجت رياح بيت العمدة وثارت عائلته، وصفوا صديقتي تمايا بالحلبية، وهددوا ابنهم بالمقاطعة والنبذ والحرمان من الميراث الكبير، فانهار شاهين أمام صفعات التهديد الوشيكة، لم يصمد كثيراً فصام عن الكلام، وانقطع حبل الوصال بينه وبين فتاته تمايا. ولكنه لم ينتظر طويلاً بالبلاد، جاءت أوراقه المختومة من أرض الحرمين، تستحثه على السفر بعيداً عن تمايا الحلبية، ولا بد أن العمدة قد خطّط بذكاء لإبعاد ولده عن تلك الزيجة، وشهدت صالة مطار الخرطوم فصول الوداع  المثيرة بين العاشقين.
خرج خطيبي صلاح إلى العاصمة، في مشوار البحث عن الوظيفة، فيما انزلقت أنا في تفاصيل الحياة القروية، أخذتني روعة ملاعب الصبا من جديد، أحسست بفراغ كبير بعد سفره... صديقتي تمايا، كانت تردّد في إحدى ندوات النشاط الطلاّبي :" هذا الوطن الكبير، بخلافاته وتبايناته، بأفراحه وأحزانه، لا بد من استصحاب أوطان أخرى لتجميله ورفع شأنه على بساط من الحب المتعافي من الغرض، إن لكل واحد منا عدة أوطان يرتادها في حياته، وطن للعشق، وطن للكراهية، ووطن للتسامح، ويجمعها في دم الإنسان وطن آخر، اسمه الإنسانية". هل فهمتم شيئاً؟، أنا استوعبت ذلك.
عقب عودتي إلى القرية، زاد وزني وتكوّرت أطرافي، داعبتني شقيقتي الصغرى، قالت : عرسكم متين؟، رددت عليها: لمّان صلاح يكوّن نفسه، وسرحت بعيداً في أجواء رحلتي الدراسية، من الابتدائية والمشوار الطويل للجامعة، شمس محطّة أبو حمامة، زحمة صباحية في أسفلت الشجرة، أنشطة الرابطة، المظاهرات والبمبان، حفلات التخريج، أحببت عودتي إلى القرية برغم الفراغ والناموس والظلام الدامس والأحلام الموءودة، كفتاة متعلّمة، راسها قوي، وراغبة في العمل الوظيفي، كانت خياراتي لا تتجاوز وظيفة في المكاتب الحكومية في المجلس الريفي، مهنة التدريس، أو سلك التمريض، ولم يكن يسمح للفتاة بالعمل بعيداً عن منطقتها إلاّ اضطراراً.  
ظل خطيبي صلاح يفزعني برأيه السالب في انشغال الزوجة بالوظيفة، إلا عند الضرورة القصوى، وقد واجهته مرات عديدة برغبتي في التوظّف، خشيت أن لا ترقى وضعية الفقر المقيم في بيتنا، إلى تلك الضرورة القصوى، فأخذ معه شهادتي الجامعية، على مضض، وسافر إلى العاصمة في مشوار البحث عن وظيفة لكلينا، كان خياري الأول والأخير مهنة التدريس العالي، وكما توقّعت، ذهبت أحلامي في الوظيفة أدراج الرياح، خدعني خطيبي، لم يقدم أوراقي إلى أية جهة، وعاد إلى القرية موظفاً في وزارة الري بولاية الجزيرة، وطلب مني التفرغ لبيته المستقبلي، وصرف النظر عن الوظيفة، وأدركت مبكراً أن خطيبي لم يفكر يوماً إلاّ في نفسه، وهكذا خرج صلاح من حياتي إلى الأبد، ولن يسخر مني أحد، إذا اعترفت بأنه لا زال يحتل ركناً مضيئا بين جنبي، كلّما فكرت في سنوات الصبا وألق الحب الأول، ولا زلت استهجن تلك الفكرة العامة التي يتبناها القرويون بزعمهم أن الحب يموت عند افتراق العاشقين، أنا أزعم بأن الحب يظل حياً في كل الأحوال، ولا يزيده مرور الوقت إلاّ اشتعالاً، ولا أعتبر الكراهية معبرة عن حالة اللاحب، بل أفسرها كحالة من حالات التحسر على عدم قدرتنا على الحب، فالحب هو أساس الحياة، بينما الكراهية حالة عارضة، تتمدد بعكس حركة الحياة، وبالتالي الكراهية هي التي تموت عندما ينهض الحب بثرائه العريض، لا زلت اشكر لخطيبي صلاح أنه أتاح لي فرصة إجراء بحث عن الزار، فقد توصلنا معاً إلى تأكيد ارتباط طقوس الزار تاريخيا، بالعبادات القديمة، ذات العلاقة بقدرة عالم الجن والشياطين، على التدخل في حياة البشر، والتأثير في سلوكهم سلباً، وأحيانا إيجاباً، حيث تقوم عالمة الزار بلعب دور الوسيط بين المريضة بالمس ومردة الشياطين، لخلق جو من المرونة لاسترضاء الشياطين وتسريحها خارج تلك الأجسام العليلة.
هاجر شاهين ليبني نفسه، أو كما قال، ليمتلك قراره، ويتزوّج بمن اختارها قلبه، أهل قريتنا يتباهون بأنهم متحضّرون، يزعمون أنهم يتركون الخيار لفتياتهم وفتيانهم للزواج وفق أمزجتهم، ولكنهم على نحو ما يحشرون أنوفهم في كل شيء، يتدخّلون حتى في أشكال الطقوس الموروثة. عادت تمايا إلى القرية منكسة الرايات، وعاد بنا قطار الشوق إلى قريتنا النائمة بخصر النيل المسافر إلى الشمال، فرحت بنا الطرقات والحواري المغطاة بشراشف النخل، والجزر الصغيرة التي امتلأت بقرقرات طيورها المهاجرة، عدنا إلى القرية للتزود ببعض الدفء، قبل الرحيل  إلى المهاجر البعيدة، ذلك الطريق المحفوف بمخاطر اللاعودة، المرسوم كالقدر فوق جباه الأجيال، الهجرة إلى أنحاء السودان المختلفة، في حبل الوظيفة، لأصحاب القدرة والحظ الإلهي، أو الاغتراب إلى أية جهة، بعيداً عن الوطن الفقير، بشروط مهينة في أغلبها، إلا من رحم الله، تفسر مقولة القائد المسلم طارق بن زياد، " البحر من ورائكم والعدو أمامكم"، حالة غريبة!! أن يلفظنا بحر بلادنا العامر باللآلئ إلى بلاد طيرها أعجمي، وأن تقتلنا الكلمات " نحن ونحن الشرف الباذخ، دابي الكر شباب النيل".... ما أروعها من شكرة موروثة، تعيش في متاهة طفلة منسية، هجرها أهلها عن قصد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق